باريس ـ «القدس العربي»: مازال المخرج الأمريكي وودي آلن يحافظ، خلال السّنوات الأخيرة، على وتيرة فيلم كلّ سنة، وهو في فيلمه الأخير، يحافظ على موضوعاته التي ميّزت أفلامه، أو يستعيدها من أفلام سابقة له.
هنالك الكاتب، الحب، الجريمة، الحوار المثقّف والذكي والممتع، المدينية، الجاز، المقهى، والبطلة الجميلة. ليس غريباً أن يكون صدور الشريط الدّعائي، الترايلر، لفيلمٍ جديدٍ لآلن، خبراً متداولاً وشاغلاً الصحافة الثقافية العالمية، وهذا ما كان قبل أقل من سنة حين شاهدنا الشريط وانتظرنا عرض الفيلم في مهرجان كان لهذا العام، حيث شارك خارج المسابقة، وانتظرنا بعدها خروج الفيلم إلى الصالات.
لم ينل «رجل غير عقلاني» استحسان البعض لأسباب عدّة، قد أختصرها في المتوقّع من مخرج مثل وودي آلن، لكنّه كان بالنّسبة لآخرين، وأنا من بينهم، فيلماً ممتازاً، جديراً باسم آلن، وهكذا كان مجمل التقييم الفرنسي للفيلم. يذكّرني ذلك بالمشهد الأخير من فيلم «نهاية هوليوودية» (2002) لآلن الذي يحكي عن مخرج يقوم بإخراج فيلم فيصاب، لتوتّره، بالعمى ويضطر لإنهاء الفيلم على حالته هذه مدّعياً أن شيئاً لم يحدث له، ينتهي الفيلم وينال نقداً قاسياً في أمريكا. أما المشهد الأخير من فيلم آلن فهو الخبر الذي يتلقاه المخرج الذي شفي من العمى بأنّ الفيلم حقّق نجاحاً كبيراً في فرنسا.
عودة إلى «رجل غير عقلاني»، أجواء الفيلم وحواراته مثقّفة، ولأفلام كهذه جمهورها الواسع في فرنسا، أفلام كهذه تكسب من النّاحيتيْن: صناديق التذاكر والمراجعات النقدية، خاصة إن كان الفيلم لوودي آلن، وهو أحد المخرجين الأكثر جذباً في فرنسا. أمّا أكثر ما افتقده الفيلم، كواحد من أفلامه، فهو حضوره إضافة إلى كونه كاتبه ومخرجه، كممثل فيه، وقد يبرّر غيابه غياب شخصيّة تكون بعمر آلن. لكنّه اختار اثنيْن ممن أجادوا أدوارهم خلال هذه السنة: جواكيم فونيكس في «إنهيرنت فايس» وإيما ستون في «بيردمان» وقبله في «سحر في ضوء القمر» (2014) وهو الفيلم السابق له الذي بدأ فيه أوّل أفلامه مع ستون، ملهمته الجديدة، الميوز، بدل سكارليت جوهانسن، كما يبدو.
مجدّداً، يكون البطل في فيلم آلن كاتباً، وهذا هوس كما يبدو لدى المخرج، فقد تكون نصف أفلامه أو ثلثها، وهي كثيرة، بأبطال كتّاب، و«رجل غير عقلاني» آخرها. يقوم فونيكس بدور أستاذ فلسفة اسمه آب، تستقدمه جامعة للتدريس فيها، صيته يسبقه: إعجاب تام بكتاباته وآرائه وراديكاليّته مخلوط بما يُعرف عنه بعلاقاته المتعدّدة مع النّساء وطبعه السّلبي وحالة السكر الخفيفة شبه الدّائمة لديه.
تتقرّب منه زميلة له في التدريس (باركر بوزي، نجمة الأفلام المستقلّة) فيقيم معها علاقة من دون أن يستطيع حلّ أزمته الجنسيّة. في الوقت ذاته يمضي وقتاً طويلاً مع طالبته جيل (إيما ستون) يتحدّثان في مواضيع ليست بعيدة عن اهتمامات كليهما، وهي فلسفيّة بشكل عام، وفي مواضيع خاصة، مع محاولات جيل الدّائمة للتقرّب منه وتقبيله وتمنّعه هو كونها طالبته.
يسمعان من طاولة خلفهما، في مطعم، امرأة تحكي عن قاض ظالم سيقلب حياتها، هنا يدخل الفيلم في مرحلته الثانية، حيث كان في مرحلته الأولى نشوء العلاقة بين آب وجيل، هي تريدها حسيّة وهو أفلاطونية. تبدأ المرحلة الثانية حين يقرّر آب التخلّص من هذا القاضي بقتله، فيراقبه ويتتبعه ويسمّمه، أما المرحلة الثالثة من الفيلم فتكمن في العلاقة بين الاثنين آب وطالبته وقد سيطرت على أحاديثها معه أخبار ومستجدات مقتل القاضي، وتدريجياً تتطوّر شكوكها في أن يكون هو قاتله.
الفيلم بالمناسبة يذكّر بفيلميْن آخرين لآلن، حيث يتم تناول الجريمة من ناحية أخلاقية، أي التبرير الأخلاقي لها، وآب كان مقتنعاً بذلك، بأنّه فعل خيراً بتخليص السيّدة وآخرين من قاض كهذا. فهي أولاً جريمة كاملة لا أدلّة عليها وتمّت في النّهار وفي حديقة عامة ومن دون دماء أو صراخ أو عنف ومن دون أي مبرر واحد للشك بآب كمرتكب لها، وهي ثانياً بتبرير فلسفي وأخلاقي كامل موصول بفلسفة «الوجوديّة» لدى آب، متأثّراً بكانط، وبفلاسفة فرنسيين كما قيل له.
الفيلمان الآخران حيث توجد الفكرة ذاتها، هما «جرائم وجُنح» (1989) و «ماتش بُوينت» (2005)، ووجدت تحديداً في الأخير حيث تمّت الإشارة، كما في «رجل غير عقلاني»، إلى رواية دوستويفسكي «الجريمة والعقاب»، حيث لا يكون العقاب ملحوقاً بالجريمة، أو مقروناً بها بقدر ما يكون مقروناً بالتبرير الأخلاقي للمرتكب، لجريمته.
لو أردت الحديث عن كل ما هو جدير بالحديث عنه في الفيلم لاستطالت المقالة أكثر، لذلك سأتجنّب مسائل كالحوارات، وهي دائماً من امتيازات أفلام آلن التي يكتبها هو بنفسه ولوحده، وكذلك الإخراج والتصوير وحب آلن للمدينة، نيويورك غالباً، الظّاهر في احتفائه الدّائم بها وبأمكنتها، مطاعم ومقاه وشوارع وغيرها. عدا عن استخدام ألن لراوييْن، آب وجيل، يحكيان بصوت من خلف الكاميرا (تقنية «فويس-أوفر»)، وهذا يندر حدوثه سينمائياً ويكثر أدبياً، حيث نجد في الرّواية أكثر من راو، كونها تعتمد على السرد لا الحوارات، لكن الفيلم المعتمد على الصورة والحوارات أساساً، أوجد له آلن راوييْن، لا راويا واحدا لم تتخطه الأفلام التي اعتمدت على هذه التقنية في رواية الحكاية فيها.
أمّا ما لا يتوجّب تفويته هنا فهو الحديث عن بطله، شخصيّته الرئيسية، آب، التي قام فونيكس بأدائها بشكل لافت، تماماً كأداء إيما ستون في الفيلم. آب هو شخصيّة «ألِنيّة» بامتياز، كاتب يعاني من «الرايترز بلوك» فيشكو من عدم استطاعته إنهاء كتابه عن هايدغر والفاشيّة، يعاني من أزمة في علاقاته الجنسيّة، لا أصدقاء ولا عشيقة، محبط ويفوق تقييم الآخرين له تقييمه لذاته بكثير، من دون أن يكون واعياً لذلك، أو واعياً له إنّما من دون أن يوليه أي اعتبار. ووودي آلن ذاته لعب هذا الدور في أفلام سابقه له، ولو خرج الفيلم قبل عشرين عاماً للعب آلن، حتماً، الدّور بنفسه، ولتخفّف الفيلم من جدّيته بتأثير أداء آلن الكوميدي. ولحالة الإحباط التي يعيشها، يكثر آب في الحديث عن «الوجوديّة» في وقت لا يرى هو أي معنى لحياته ولوجوده. يحكي عن عدم رغبته في إكمال كتابه لأنّه لن يغيّر شيئاً في العالم. لكنّه سينبّهنا في مشهد باكر بفكرة الوجوديّة لديه، حيث يأخذ مسدّساً من أحدهم، فيه طلقة واحدة، ويضع المسدّس على رأسه ويطلق أكثر من مرّة، من دون أن تنطلق الرّصاصة في مخزنها الدوّار، إلى أن يُسحب المسدّس منه، ويقول للحاضرين، وكانوا طلّاباً، إن في ما فعله درس في الوجوديّة أهم مما قد يُقرأ في الكتب.
هذا المشهد العابر ضمن حفلة تعزمه عليها طالبته جيل، يمهّد لربط مسائل ثلاث لاحقاً: حالة الإحباط واليأس التي يعيشها آب، ورغبته في إثبات أنّه مفيد في هذا العالم أو إثبات وجوده أو وجوديّته أو مصالحته مع أفكاره الفلسفيّة، وثالثاً إلحاق هذا الإثبات بجريمة مُبرّرة أخلاقياً فيكون مرتكبها مفيداً بشكل راديكالي. وهي مسائل مترابطة في ما بينها، سببياً.
يبدأ الفيلم بالحديث عن كانط وفلسفته العقليّة، ونحن هنا أمام «رجل غير عقلاني»، ماراً بسارتر ووجوديّته، ثم بدوستويفسكي والجريمة وعقابها لديه. لكنّ للفيلم كذلك نهاية عبثيّة (أبزورد) وهو مذهب فلسفي وأدبي كذلك، وهو هنا، سينمائياً، ميزة خاصّة لوودي آلن أنهى بها فيلمه، بأسلوب لا بدّ أن تكون فيه العبثيّة ساخرة إن أتت كنتيجة للأفكار الكبيرة التي مرّت على طول الفيلم.
سليم البيك
مقال رائع و خاصة لمعجبين وودي الن
شاهدت معظم افلامه و يبدو (رجل غير عقلاني ) موعد مع تحفة جديدة