رد اعتبار 30 يونيو

ليس أسوأ من تفسير اليمين الديني لحدث 30 يونيو 2013 سوى تفسير الفلول، كلاهما يعده انقلابا على طريقته، وكلاهما يزوّر الحقيقة التي لا تزال ماثلة في الأذهان والأبصار، فقد شهد اليوم تحركا شعبيا غير مسبوق، واندفعت عشرات الملايين من المصريين إلى الشوارع والميادين، وفي كل مدن مصر الكبرى والصغرى، ونجحت في عزل حكم اليمين الديني، تماما كما نجحت ثورة 25 يناير 2011 في خلع رأس نظام مبارك.
ولولا ثورة 25 يناير ما كان 30 يونيو، فقد مرت عقود طويلة على المصريين، لم ينزلوا فيها إلى الشارع، وكانت آخر «آهة» غضب جماعي للمصريين في انتفاضة يناير 1977، بعدها، دخل المصريون في ما يشبه الغيبوبة التاريخية الطويلة، فقد انفكت التعبئة العامة بصيغة الجيش والشعب، التي كانت حرب أكتوبر 1973 آخر ملامحها، وبدأ الانقلاب من الداخل على اختيارات ثورة 23 يوليو 1952، وإطلاق موجة انفتاح «السداح مداح»، وبدء عصر النهب والتفكيك العام، و«خلي بالك من اسكندرية ياحاج رشاد»، على حد التعبير المأثور للرئيس السادات.
وعجلت وقائع ما بعد انتفاضة 1977 بانكشاف الصورة، وبدا أن الجيش الذي عارض إجراءات السادات وقتها، يفقد مكانته، وجرت سلاسل تصفيات متتابعة في أعصاب الأجهزة الحساسة، بل جرى إلغاء جهاز الرقابة الإدارية، تيسيرا لطبقة النهب الجديدة، وبناء على طلب مباشر من عائلة إخوة السادات الشريكة للحاج رشاد عثمان، المتهم بتجارة المخدرات. وجرت أوسع عملية «شفط» لموارد وثروات المصريين، تطورت من دور «القطط السمان» في أواخر عهد السادات، إلى المليارديرات وحيتان الأرض المنهوبة في أيام مبارك، بالتوازي مع الاندفاع من زيارة القدس «المحتلة» إلى عقد ما يسمى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وتجريف القلاع الإنتاجية الكبرى، والتحول من «الخصخصة» إلى «المصمصة»، وهروب المصريين من مصر زمن المأساة الممتدة، ومن لم يستطع الهجرة في الجغرافيا بحثا عن الرزق الشحيح، كانت الهجرة إلى التاريخ وما بعد الدنيا في انتظاره، ونمت واستفحلت ظاهرة جماعات اليمين الديني، التي كانت عنوانا للهجرة النفسية إلى تاريخ ذهبي موعود، واختصها السادات برعايته، وأفسح لها المجال لتصفية خصومه الناصريين واليساريين، وفي سياق سيطرت فيه فوائض البتروـ دولار الخليجية، التي سعت بفوائض ثروتها للثأر من ثورة عبد الناصر وتيارها القومي العربي، وكانت المحصلة على ما نعرف، تضخما في ثروات طبقة النهب، التي استأثرت بكراسي السلطان، وتضخما مقابلا في سطوة جماعات اليمين الديني، وانتفاخا لنفوذها طوليا من النقابات المهنية إلى الأحياء الشعبية والقرى الغارقة في البؤس، واستيلاءها على كراسي ما كان مجتمعا، وتحول الأخير إلى غبار بشري، لا طبقات تعرف مصالحها ومكانها في تركيب اجتماعي معلوم، خصوصا مع الإفقار واسع النطاق لأغلبية الشعب المصري، وانهيار إنتاجية الاقتصاد، والتحول إلى اقتصاد الريع والفهلوة، وتفشى وتعميم ثقافة الفساد، واستسهال التخفي بالانهيار الأخلاقي وراء أقنعة وسواتر من التدين الظاهري المفرط، وتداعى الحلم بحياة أفضل، وتجفيف منابع السياسة بتحلل المجتمع، وانتظار الهروب إلى بلاد الآخرين، أو إلى الآخرة السعيدة، إلى أن جاءت صدمة غزو العراق، الذي كان أوسع وأيسر مهارب المصريين، وكان غزوه في مارس 2003، وصواريخ كروز التي سقطت على رأس بغداد، وكأنها نزلت على رؤوس سواد واسع من المصريين في الوقت نفسه، نقلت إليهم إحساسا لا يبارح، بأنه أحيط بهم، وأنه لا مهرب لهم بعد اليوم، وهو ما يفسر اندفاع عشرين ألف مصري وقتها إلى ميدان التحرير، وعلى نحو بدا مفاجئا لمراقبي الركود المصري الممتد، خصوصا مع مزج هتافات لعن بوش مع لعن مبارك ونجله المتطلع وقتها لوراثة الرئاسة، وكان تحرك 20 و21 مارس 2003، والدراما التي صاحبته بالصدام المنهك مع قوات الأمن في قلب القاهرة، كان الحدث الموحي هو الواقعة التأسيسية لقلق وغضب مصري جديد، تدافعت نذره سراعا، بظهور حركة «كفاية» وأخواتها أواخر 2004، ثم انتقال القلق السياسي إلى قلق وغضب اجتماعي، مع إضراب عمال المحلة الشهير أواخر 2006، ثم اجتمع القلقان ـ أو الغضبان ـ في انتفاضة المحلة 6 أبريل 2008، التي كانت «بروفة جنرال» لما جرى بدءا من ظهيرة 25 يناير 2011، الذي تحول بدوره إلى ثورة شعبية خلعت مبارك بعد 18 يوما، انحاز إليها الجيش الرافض لسيناريو التوريث العائلى للرئاسة.
القصة ـ إذن ـ أبعد وأعمق من تفسيرات مثيرة للسخرية، من نوع حركة الناشطين وتدريبات صربيا أو مؤتمرات المخابرات الأمريكية، وكأن مبارك كان معاديا لأمريكا، وهو الذي ورث عن السادات قصة الـ99% من أوراق اللعبة التي بيد أمريكا، وزادها المخلوع في تصريحات علنية إلى 100%، ووصفه جنرالات الكيان العبري بأنه أعظم كنز استراتيجي لإسرائيل، وكانت عائلته تحكم بالوكالة عن الأمريكيين والإسرائيليين في مصر، وسعى نجله جمال إلى الحصول على بطاقة اعتماد من واشنطن، بزيارته السرية الشهيرة لبوش الابن عبر الباب الخلفى للبيت الأبيض أواسط 2006، وكانت أمريكا ترى فيه العنوان المدني المناسب للخلاص من نفوذ الجيش في السياسة المصرية، وبعد أن قطعت أشواطا في إضعاف الجيش بتحكمات وشروط المعونة الأمريكية، ثم فوجئت واشنطن بالثورة الشعبية على مبارك الأب والابن، وكانت تصريحات واشنطن الأولى واثقة في قدرة إدارة مبارك على احتواء مظاهرات ميدان التحرير، ثم أدركت أنه قضي الأمر، مع دعم الجيش لحركة الشعب، وكان لها أن تفعل ما تفعله في العادة مع رجالها الذاهبين، ورمت مبارك ونجله وعائلته في أقرب سلة مهملات، وبحثت عن أوراقها الأخرى في جماعة البيزنس وجماعة اليمين الديني، وأيدت صعود الإخوان للحكم بعد الثورة، على ظن أن شعبيتهم تكفل ضمانا أكبر لمصالح أمريكا في مصر، وقد امتنع الإخوان عن المشاركة في الدعوة لثورة 25 يناير 2011، ثم التحقوا بحركتها بعد أن بانت فرص نجاحها من أول يوم، وكان ما كان، مما كان قدرا على مصر أن تجنيه وتعانيه، فمع الغياب الطويل للسياسة، ومع التضخم المرضي لتيار اليمين الديني طوال عهدي السادات ومبارك، بدت الفرصة سانحه لتبادل الكراسي، وانتقال اليمين الديني من كراسي ما كان مجتمعا إلى كراسي السلطان، خصوصا في غيبة حزب أو تحالف ثوري مؤثر، يعبر عن ثورة كانت كل شعاراتها اجتماعية ووطنية وديمقراطية، وخلت ميادينها الأولى من أي شعار ديني أو إخواني، ولم تظهر فيها من صور الزعماء التاريخيين سوى صورة جمال عبد الناصر، ولا ترددت سوى أغاني عصره الثوري المنقلب عليه، كانت الإشارة ظاهرة إلى إفاقة أولية من غيبوبة طويلة، تدفقت بها مئات الآلاف إلى ميادين التحرير في المدن الكبرى، زادت إلى ملايين لحظة خلع مبارك، ثم عادت إلى بيوتها في انتظار ما يجيء، وكان لا بد أن تجرب حكم الإخوان كبديل متاح، وسرعان ما اكتشفت الحقيقة، ورأت في الإخوان حالة القرين لجماعة مبارك لا وضع النقيض، كانت الإفاقة من الغيبوبة توالى تجلياتها، وكان الإخوان يفقدون شعبيتهم المخزنة بسرعة مذهلة، فقد حصل حزب الإخوان وحده على نحو 50% في أول انتخابات برلمانية بعد الثورة، كان ذلك نهاية عام 2011، وبعد ستة شهور لاغير، قرب أواسط 2012، حصل مرشح الإخوان الرئاسي في الجولة الأولى على نحو ربع كتلة الناخبين المصوتين، مع التراجع المحسوس في نسبة الإقبال على التصويت، من نحو 60% في انتخابات البرلمان إلى أقل من 50% في الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة، ونجح مرشح الإخوان في انتخابات الإعادة بأصوات الآخرين لا بأصوات الإخوان، فقد نزلت شعبية الإخوان إلى النصف في ستة شهور لاغير، ثم جرى التدحرج إلى قاع الشعبية في ظل رئاسة مرسي ذات العام الواحد، وتوالت موجات الإفاقة الشعبية من الغيبوبة التاريخية، وطرحت فكرة العودة إلى صناديق الانتخاب الرئاسي، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، ورفض الإخوان، الذين كانوا يحلمون بحكم إلى الأبد، وكان سبب الرفض الغريزي مفهوما، فقد كانت شعبية الإخوان تتضاءل، وكان طبيعيا أن يزيد رفض الإخوان من غضب الناس، وأن تتحول مئات الآلاف فالملايين التي خلعت مبارك في ثورة يناير، إلى عشرات الملايين التي عزلت حكم الإخوان في ميادين وشوارع 30 يونيو 2013، كانت تلك هي الموجة العظمى الثانية لثورة 25 يناير نفسها، وكان الدعاة إلى 25 يناير في قلب الدعاة إلى 30 يونيو، ولو أن الإخوان قبلوا وقتها بإجراء انتخابات رئاسة مبكرة، ربما لتغير خط سير الحوادث بعدها في مصر.
يبقى أن ما يلفت النظر، هو الاتفاق الجوهري في الحكم على 30 يونيو بين الإخوان والفلول، كلاهما ينكر ويتنكر لصلات «العروة الوثقى» بين 25 يناير و30 يونيو، فاليمين الديني ينتحل صفة 25 يناير، ويعد حركة الناس في 30 يونيو انقلابا على الثورة، وجماعة الفلول تريد انتحال صفة 30 يونيو، وتعده انقلابا على 25 يناير، والهدف المشترك للطرفين، هو العودة إلى خطوط 24 يناير 2011، وإعادة جماعة مبارك ـ بدون مبارك ـ إلى كراسي السلطة، وترك كراسي المجتمع والمعارضة للإخوان، وهو ما لن يكون أبدا، مهما بدت مظاهر ومصاعب اللحظة المصرية الراهنة، ولسبب غاية في البساطة، هو أن التاريخ لا يعيد نفسه، والشعب وحده هو الكفيل برد اعتبار ثورته العظمى.
كاتب مصري

رد اعتبار 30 يونيو

عبد الحليم قنديل

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فوزي رياض الشاذلي.....سوريا:

    ان كانت الأمور بنتائجها ، فالأستاذ قنديل، وهو يدري ذلك ، فيمكن القول ودون اجحاف ، ان الاخوان المسلمين وكل التيارات الاسلاميه دون اي استثناء ونظام ، ولنقول ممثل جنرالات الجيش المصري الحالي ، عبد الفتاح السيسي ، يمثلان وجهان لعمله واحده، وهي تقزيم مصر ، وتفريغها فكريا وثقافيا ، ومحو الحياة السياسيه والاجتماعيه، وضرب التعليم والصناعة ويمكن الاستمرار طويلا في تعداد مجالات الحياة اليوميه للمصرين ، ناهيك عن احتقراه للامن القومي العربي ، وإهماله لنهر مصر الخالد واقصد النيل، كم نتمنى ان يتحقق لمصر الخير الذي يضمره السيد الكاتب لمصر ونحن معه، ولكن للسياسه قوانين ليس من السهل القذف فوقها.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية