عندما انتهيت من قراءة كتاب «رسائل السجن» للمناضل الماركسي أنطونيو غرامشي، في جزئه الأول الذي خصصه لمراسلة أمه، استحضرت بمرارة معاناة السجناء في زنازينهم. وأنت تقرأ الرسائل قد تسترعي انتباهك في الصفحات الأولى معاملة الحارس الذي تلقى الأوامر بإزعاج أنطونيو، وذلك بفتح باب زنزانته وإغلاقه محدثا ضجيجا لا يعرف وقعه سوى السجناء أنفسهم. وهذه الصورة قد تذكرك بإزعاج الخادمة المتكرر لشخصية غريغور في نص فرانز كافكا الشهير. وبالتالي، فـ»المزعج» دائما يجابه بإزعاج مضاد أكثر وقعا وتكلفة.
رسائل السجن مكتوبة على كل البحور؛ بحر الحب الإنساني العميق الذي يكنه غرامشي لأمه ولزوجته ولأولاده وأقربائه. مكتوبة كذلك على بحر الوجع والمعاناة النفسية والجسدية التي طالته وهو قابع في زنازين النظام الفاشي الذي هشم أحلامه وآماله. ولا شك في أنك ستنتبه إلى انتهاجه ــ وهو في الزنزانة ــ لبدائل وأشكال متنوعة تمكنه من البقاء كالقراءة والكتابة والمراسلة، علاوة على ذلك ــ وأنت تقرأ الرسائل ــ قد لا تحتاج إلى كثير يقظة حتى تلمس طمأنته اللافتة لأمه باستقرار صحته الجسدية والنفسية، على الرغم من ضروب القهر؛ بدءا بمكوثه في سجن ميلان مرورا بفترات الانتقال إلى زنازين أخرى، وما رافقها من انتظار وانتهاء بترحيله إلى روما للمحاكمة. ي
قول غرامشي في الرسالة 28 المؤرخة بتاريخ 13 سبتمبر/أيلول 1931 واصفا ظروف عيشه في السجن: «تخيلي معي أمي العزيزة، وأظن أنني لم أصرح لك بهذا أبدا. أن لدي سريرا ومسندا حديديا وفراشا ووسادة من الشعر. وغطاء من الصوف ولدي أيضا منضدة، ليست من النوع الجيد لكنها في النهاية تفي بالغرض». وستبرز القراءة والكتابة ومراسلة الأم والتساؤل عن جزيرة ساردينيا، لتصور لنا بجلاء شكلا من أشكال المقاومة والبقاء، إذ على الرغم من شعور أنطونيو بالإحباط ــ وهو ما تشي به جمل كثيرة في كافة تضاريس الكتاب ــ إلا أنه ما فتئ يبرز في صورة المقاوم المتجلد، الذي ينافح عن قضية ما، ولعل ذلك ما تفصح عنه الرسائل:
«أنا هادئ جدا.. سأحاول أن أتخطى الصعاب التي تنتظرني جسديا». «لا داعي للقلق حتى لو تعلق الامر بصحتي». «حالتي الصحية لا بأس بها. أحس بأنني أصبحت في الأيام الأخيرة بصحة جيدة». «أؤكد لك أني بصحة مقبولة». «أنا بصحة جيدة ولست مكتئبا».
وفي هذا السياق، لم ينس أنطونيو تذكير أمه ــ والقارئ تعميما ــ أن فعل السياسة هو الذي أدى إلى اعتقاله هو ورفاقه، يقول: «ويجب أن تتفهمي أيضا أن استقامتي لا دخل لها في الأمر، ولا ضميري أيضا في ما يتعلق ببراءتي أو إدانتي. هذا الأمر سببه فعل نسميه السياسة». ويضيف: «تخيلي أن في إيطاليا يوجد طفل كبير جدا، يهدد بالتبول في فراشه، أنا وعدد قليل آخر، نحن رأس الشوكة الملتهب، نلوح بها لتهديد هذا المزعج ومنعه من تلويث الفراش النظيف».
وعلى العموم، يمكن القول إن رسائل أنطونيو ــ في اعتقادنا ــ مغرقة في التفاصيل بشكل يجعلها أكثر حميمية وذات مسحة سير ذاتية، لكن هذا لا يمنع من عزل بعض الإشارات الدالة على فكر غرامشي وتصوراته لنظام الحكم ولمآل الطبقات المهضومة حقوقها. فكر لا يمكن فصله عن السياق العام وعن عصر أنطونيو المتسم بكثرة الاضطرابات والاختلالات التي عاشتها جزيرة ساردينيا تعميما. ومن هنا، تتبدى صورته كمثقف عضوي منخرط في هموم المجتمع ومشاغله. وترتيبا على ذلك، تعتبر «رسائل السجن» شهادة دالة على ما عاشه هذا المناضل وما زال يعتمل في أوساط عدد من المجتمعات. وقد ظل أنطونيو منتصرا للقيم الإنسانية الكونية نابذا كل أشكال الجور والظلم والهيمنة المتوحشة. ومن ثمة، يعد ـــ في تقديرنا ـــ خير تجسيد لـ«المثقف العضوي» الذي أصبحنا نفتقده.
٭ كاتب من المغرب
جواد السراوي