بغداد ـ «القدس العربي» ـ مصطفى العبيدي: حملت انتفاضة سكان جنوب ووسط العراق المطالبة بتوفير الخدمات الأساسية وفرص العمل ومحاربة الفاسدين، العديد من الرسائل التي تستحق الوقوف عندها، نظرا لخطورتها في رسم معالم المشهد العراقي الرافض لاستمرار تدهور الأوضاع وعدم مبالاة الساسة في وضع حلول جدية لها، ولتلمس التداعيات الداخلية والإقليمية لهذا الحدث.
هل ما يحصل من ثورة غضب في جنوب العراق كان متوقعا بالنسبة للعراقيين والمراقبين أم لا؟ من المؤكد ان الانفجار الشعبي وتحدي السلطة وأحزابها لم يكن عملا عبثيا دون أسباب ومقدمات. وإذا كان السبب المباشر له هو انعدام خدمات الكهرباء والماء، فإنه جاء كنتيجة حتمية لسنوات من الإهمال المتعمد لأبسط حاجات المجتمع، وحرمان الشعب من حقوقه الأساسية، رغم الثروات النفطية الهائلة للمنطقة التي أهدرتها أحزاب السلطة من أجل مصالحها ولخدمة بعض الدول الخارجية.
والمفارقة ان الانتفاضة الشيعية تجري في ظل نظام تقوده الأحزاب الشيعية فعليا منذ 2003 والتي انشغلت بمغانم السلطة عن تلبية الاحتياجات المشروعة لقاعدتها الجماهيرية. لذا لم تكن الانتفاضة الحالية هي الخطوة الأولى لتعبير محافظات الوسط والجنوب عن التمرد وعدم الرضا عن الفشل والفساد الحكومي، بل سبقتها سلسلة من التظاهرات والفعاليات، إضافة إلى عزوف ملحوظ للجماهير عن المشاركة في الانتخابات الأخيرة.
وكانت الانتفاضة إدانة قوية لصناع العملية السياسية، قدمها أبناء المحافظات الجنوبية الذين يعانون من صراع الأحزاب على المال العام الذي تسبب في هدره ونهبه من قبلها وحرمان تلك المناطق من الخدمات الأساسية، ولذا جاء استهداف أغلب مقرات الأحزاب الشيعية وبيوت المسؤولين وإحراقها، إضافة لمحاصرة العديد من الحقول النفطية والموانئ، وقطع الطرق الرئيسية بين المحافظات ومع دول الجوار كالكويت وإيران.
ونظرا لشمولية الفشل والفساد الحكومي على كل أرض العراق، فقد حظيت الانتفاضة بدعم واسع من بعض مناطق العاصمة كالشعلة ومدينة الصدر، كما عبر سياسيون من المحافظات الغربية والشمالية عن دعمهم لمطالب المتظاهرين التي اعتبروها مطالب كل الشعب العراقي. ومن ذلك إعلان مجلس شيوخ عشائر الأنبار، البراءة من أي منتسب أو ضابط في الجيش الحالي من أبناء الأنبار يساهم في قمع التظاهرات السلمية في الوسط والجنوب.
إجراءات الحكومة
ومنذ الأيام الأولى للحراك الشعبي الغاضب، لجأت الحكومة إلى اتخاذ إجراءات لاحتواء مطالب المتظاهرين عبر اتجاهين هما، أولا تشكيل «خلية الأزمة» للاستجابة إلى بعض مطالب المتظاهرين لامتصاص نقمتهم، عبر مجموعة قرارات منها الإعلان عن تعيين 10 آلاف موظف من أهالي البصرة، وإطلاق منح مالية بنحو 3،5 ترليون دينار للخدمات فيها، مثل الإسكان وتصفية المياه والصحة، وإقالة مدير مطار النجف ومدير شرطتها، إضافة إلى قرارات زيادة إطلاق كميات المياه ومحاولات إيجاد بدائل للكهرباء من دول غير إيران التي ألغت اتفاقا لإمداد العراق بالطاقة الكهربائية.
أما الأسلوب الثاني لتعامل الحكومة مع الانتفاضة، فقد جاء عبر التصدي للمتظاهرين غير السلميين. فقد حذر رئيس الوزراء حيدر العبادي من مندسين ومخربين يحرفون التظاهرات عن المطالب المشروعة، هدفهم تخريب المنشآت وإحداث الفوضى ومحاولة العودة بالأوضاع إلى الوراء، وتوعد بالرد عليهم.
وقد حرص العبادي على الاتصال بقيادات الانتفاضة عبر زيارة البصرة واستقبال وفود من المحافظات الغاضبة، للاستماع لمطالبهم وإبداء الاستعداد للاستجابة لبعضها، مقرا بوجود أخطاء كثيرة في عمل الحكومة. إلا انه حذر من «الانفجار الذي لا يخدم أحدا، فانهيار الدولة يؤدي إلى مشاكل كبيرة لأن كل شيء ينهار ونحن ما زلنا نعاني من انهيار الدولة بعد سقوط الديكتاتورية ولهذا فان الانفجار سيدمر الجميع».
ولم تقتصر خسائر التظاهرات على الجوانب المادية فحسب بل شملت سقوط العديد من الضحايا، إذ أعلنت وزارة الداخلية سقوط 487 مصابا في التظاهرات نصفهم من الأجهزة الأمنية.
بينما أعلنت وزارة الصحة عن مقتل 8 أشخاص حتى يوم الثلاثاء الماضي ورقود 56 آخرين في المستشفيات نتيجة الإصابات بين المشاركين في التظاهرات.
وضمن السياق، أعلنت قيادة شرطة المثنى، اعتقال 65 شخصا ممن وصفتهم بمثيري الشغب والمتهمين بحرق الدوائر الحكومية ومقار الأحزاب أثناء التظاهرات التي شهدتها المحافظة، مع استمرار البحث عن مطلوبين آخرين. وتكررت عمليات الاعتقال في مناطق أخرى أيضا. كما حذّر «المرصد العراقي للحريات الصحافية» من استمرار الانتهاكات والتجاوزات على الصحافيين والفرق الإعلامية التي تغطي التظاهرات في المدن العراقية، واعتبر أن «إصدار مذكرات قبض بحق البعض منهم هو نوع من الترهيب المرفوض، ويتعارض مع الحقوق الدستورية المكفولة لهم».
اتهامات للمتظاهرين
ومع استمرار التظاهرات المطالبة بالخدمات رغم إجراءات الحكومة، شنت معظم الأحزاب الشيعية وأوساط حكومية، هجوما عنيفا على المتظاهرين ووجهت لهم العديد من الأوصاف كالبعثية والمخربين والمندسين، داعين الحكومة إلى ردعهم.
الناشط البارز باسم خشان رفض في لقاء تلفزيوني اتهام المتظاهرين بالخيانة، واصفا اتهام السياسيين لهم بالخيانة بأنه إرهاب، منوها ان الحراك جاء نتيجة إهمال حكومي لاحتياجات الناس ووعود تم الالتفاف عليها، كاشفا عن قرب الإعلان عن هيئة تقود المتظاهرين وتنسق مطالبهم وفعالياتهم. كما دعا سياسيون وناشطون ومواطنون، الحكومة إلى التعامل بإيجابية مع المتظاهرين السلميين وتحمل مسؤولياتها في الاستجابة لمطالبهم المشروعة بدل كيل الاتهامات لهم. بينما دعا نائب رئيس الجمهورية أياد علاوي لتشكيل حكومة انقاذ وطني.
وكشفت الأزمة جوانب من قوة النفوذ الإيراني على حكومات العراق، ومنها ما أعلن عنه النائب السابق عن البصرة القاضي عبد اللطيف الوائلي في لقاء تلفزيوني من تقديم شركات أجنبية، عدة عروض لإقامة محطات توليد كهرباء في البصرة بمبالغ بسيطة لا تتجاوز 300 مليون دولار، ولكن الحكومة رفضتها وتعاقدت مع إيران على شراء الكهرباء بمبلغ 900 مليون دولار سنويا، واصفا ذلك «خيانة في وضح النهار».
وفي موقف لافت يحدث لأول مرة، يبدو ان سكان الجنوب العراقي لم ينسوا لإيران، الحليف العقائدي المفترض، مواقفها غير الودية والبعيدة عن الحكمة، في تعميق معاناة العراقيين وخاصة شيعة الجنوب من خلال دعمها لبعض الأحزاب الفاسدة التي نهبت البلد وقيامها بقطع الأنهار عن العراق الواحد تلو الآخر منذ سنوات، وختمتها بقطع الكهرباء عنهم في أشد أوقات الحاجة إليها، فجاءت التظاهرات الحالية فرصة لتفجر الغضب الشيعي العراقي على إيران والأحزاب الموالية لها، حيث انتشرت أفلام فيديو على شبكات التواصل الاجتماعي هاجم فيها المتظاهرون إيران وحلفاءها، كما أحرقوا مقرات الأحزاب الموالية لها ومزقوا صور المراجع الدينية الإيرانية في شوارع الجنوب ليكسروا بذلك حاجز الصمت والخوف ازاء تنامي نفوذ إيران في العراق.
وكانت رسالة مهمة أخرى، عندما كشف وزير الكهرباء العراقي، قاسم الفهداوي، عقب فشل زيارته إلى إيران لتغيير موقفها من قطع الكهرباء عن العراق، ان «وزارته وضعت خطة بديلة عن استيراد الطاقة الكهربائية من إيران بعدما أعلن الجانب الإيراني عدم إعادة خطوط الاستيراد الأربعة إلى الخدمة من جديد». كما اُعلن عن قرب توجه وفد عراقي إلى السعودية للبحث في امكانية تزويدها للعراق بالطاقة الكهربائية.
ويذكر ان وزير الطاقة الإيراني رضا أردكانيان، أعلن أن بلاده أوقفت تصدير الكهرباء والمياه بالكامل عن العراق.
وكشف في تصريح للصحافيين، حسب وكالة «إسنا» الإيرانية، «إن قطع الكهرباء والماء عن العراق جاء لأسباب سياسية واقتصادية في مقدمتها أن إيران تريد تشكيل الحكومة المقبلة وفق شروطها بتولي المالكي أو العامري رئاسة الوزراء وكذلك تسديد مليار دولار عن خط الكهرباء الإيراني بالعملة الصعبة وليس بالدينار العراقي».
ولعل الرسالة المهمة الأخرى هي ان الانتفاضة أثارت مخاوف المجتمع الدولي وبعض دول الجوار من انهيار الأوضاع في العراق، وخاصة بعد قيام المتظاهرين بمحاصرة العاملين الأجانب في بعض الحقول النفطية ومشاريع أخرى، وهو ما يعرقل المساهمة الدولية في مشاريع إعادة إعمار العراق وتحسين وضعه الاقتصادي، ومن ذلك عقد مجلس الأمة الكويتي، جلسة لمناقشة الأحداث والتطورات العراقية، وتداعياتها على الحدود الكويتية، وارسال القوات الخاصة الكويتية إلى الحدود مع العراق لحماية آبار النفط الشمالية. وقد عبر الممثل الأممي في العراق يان كوفيتش عن القلق ازاء التظاهرات كما قام بزيارة إلى النجف للقاء المراجع الشيعية.
لقد فجرت انتفاضة الغضب، مخاوف وقلقا لدى العراقيين من ان تكون الفوضى والقمع، بيئة منعشة لظهور تنظيمات إرهابية جديدة كتنظيم «داعش» أو أي تنظيمات متشددة مشابهة.
بينما تزايدت المخاوف من احتمال وقوع صدام مسلح شيعي شيعي يجر البلد إلى منحدر خطير، نظرا لانتشار السلاح في يد جميع الأحزاب والتنظيمات الشيعية التي تتناقض مواقفها تجاه الانتفاضة. مع انتشار أخبار واتهامات بقيام بعض الميليشيات بقمع الاحتجاجات، وعن وقوع اشتباكات مسلحة محدودة بين بعض الميليشيات في بغداد.
كما عبر بعض المراقبين عن شكوك في ان تكون بعض العناصر المحرضة على التظاهرات ومهاجمة المنشآت النفطية في البصرة، لها صلات بتهديدات إيرانية بمنع تصدير نفط دول المنطقة إذا توقف النفط الإيراني عن التصدير.
وما أشبه اليوم بالبارحة عندما ثار أهل الجنوب على النظام السابق أثناء المواجهة بين الجيش العراقي وقوات التحالف الدولي في معركة تحرير الكويت عام 1991 عندما ثاروا ضد زج البلد في الحروب وفرض معاناة الحصار عليهم، وهو سيناريو يتكرر ولكن بأدوات وأشكال مختلفة.
وتبقى الرسالة الأبرز للانتفاضة هي ان العراقيين، وهم يعيشون ذكرى ثورة تموز، معروفون بأنهم شعب الثورات ضد الحكام الطغاة، وانهم مستعدون لتقديم التضحيات لنيل حقوقهم ورفع الظلم، وهي حقيقة يجب ان يعيها ساسة السلطة، وبالتالي فليس من الحكمة ان يتصوروا ان صبر العراقيين وسكوتهم عن الظلم وهدر حقوقهم يمكن ان يستمر للأبد، وان على السلطة ان تستجيب لمطالب الشعب المشروعة بجدية ودون تسويف كالمرات السابقة.
11HAD