يبدو أن «المشير السيسي» أراد بإيفاد وزير الدفاع صدقي صبحي لكوريا الجنوبية؛ التأكيد على ارتباط قرار تجميد وخفض المساعدات العسكرية الأمريكية بالموقف من كوريا الشمالية، ولم يكن بسبب سجل الحريات وحقوق الإنسان، وهي حجج أوردتها واشنطن في تبريرها لقرار «الكونغرس» المتعلق بالمساعدات المقدمة لمصر. ولفتت صحيفة «واشنطن بوست» الأنظار إلى ما وصفته بـ«الرد الغاضب» لوزارة الخارجية المصرية على القرار، واعتباره سوء تقدير من واشنطن. واستندت فيما نشرته إلى تقرير سابق لصحيفة «نيويورك تايمز»؛ أكد «أن العامل الرئيسي في قرار خفض المساعدات هو علاقة القاهرة المستمرة مع بيونغ يانغ.»؛ في وقت اعطى فيه وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون «الأولوية القصوى لإحكام الحصار على كوريا الشمالية؛ اقتصاديا ودبلوماسيا» وطلبه الملح في اجتماعاته بقادة العالم بضرورة قطع العلاقات معها.
ورجحت الصحيفة أن الضغط على الحكومة المصرية جاء جزءا من حملة أمريكية واسعة؛ تنظر لكوريا الشمالية كمشكلة للعالم وليس مشكلة واشنطن وسيول وطوكيو فقط. ومن الواضح أن الهدف ليس الوصول لحل إنما شيطنة ذلك البلد المثير للجدل، والمستهدف من واشنطن وحلفائها وتوابعها؛ بعد دخوله «النادي الذري» وقدرته على صناعة الصواريخ الباليستية. وحسب ما ذكرت «نيويورك تايمز» فإن علاقة القاهرة ببيونغ يانغ قديمة؛ من أيام الحرب الباردة؛ حيث استعانت مصر وقتها بطيارين كوريين لتدريب طيارين مصريين قبيل حرب 1973. وهكذا يصر ترامب على إعادة النظر في علاقاته مع الدول على أساس موقفها من بيونغ يانغ..
وجاءت استجابة «المشير» سريعة وأوفد وزير دفاعه إلى هناك، وليعلن قطع العلاقات مع بيونغ يانغ من سيول؛ عاصمة العدو اللدود!! وهنا تجاهل «المشير» علاقة بلاده القديمة بدولة ساعدتها في حرب 1973 ، وهي حرب انتصرت فيها مصر عسكريا، وكانت في أشد الحاجة إلى ذلك النصر بعد هزيمة 1967 ولم يكتف وزير الدفاع بإعلان قطع العلاقات مع «بيونغ يانغ»، ونسب موقع «روسيا اليوم» نقلا عن وزارة الدفاع الكورية الجنوبية؛ نسبت لوزير الدفاع المصري قوله: «إن القاهرة ستتعامل بشكل وثيق مع سُيول ضد تصرفات كوريا الشمالية التي تهدد سلم واستقرار المجتمع الدولي».. ووصل وزيرا الدفاع الكوري والمصري إلى اتفاق الاثنين الماضي؛ تم بموجبه توثيق الشراكة بين البلدين والتعاون في صناعة وتطوير الأسلحة..
أقر وزير الدفاع المصري كوريا الجنوبية في طلبها «تشديد العقوبات على كوريا الشمالية»، ردا على تجربتها النووية التي أُجرِيت الأسبوع قبل الماضي، وبذلك دخلت مصر طرفا في نزاع دموي، وليست وسيط تهدئة سلمي؛ نزاع تجيش فيه واشنطن قوات حلفائها وأتباعها، وتعد ترسانتها التقليدية والذرية لمحرقة نووية تستوجب حرصا زائدا في التعامل مع رئيس أمريكي عشوائي ولا يقدر المسؤولية، وتعول عليه الصهيونية العالمية في شن حرب استباقية ضد روسيا والصين وحلفائهما؛ لن يخرج منها أحد منتصرا، وذلك على العكس من تنبؤات هنري كيسنجر، الذي ادعى أن الانتصار محسوم للدولة الصهيونية وامتدادها الأمريكي. هذا بينما «القارة العربية» مهددة في وجودها ذاته، وتخضع لإبادة منظمة في فلسطين والعراق وبلاد الشام وليبيا والصومال!!.
تمخض اتفاق التعاون الثنائي في مجال الصناعات العسكرية إلى إقامة ملحقية عسكرية لمصر في «سيول»، ومن المتوقع افتتاحها خلال الأسابيع القادمة؛ وفقا لتصريحات وزير الدفاع صدقي صبحي. وجاء ذلك مفاجئا وعلى عكس توقعات أشارت إليها صحيفة «نيويورك تايمز» في تقريرها سالف الذكر، وجاء فيه أن «عقوبات الأمم المتحدة على كوريا الشمالية وخفض المساعدات العسكرية الأمريكية لمصر؛ أدت لاهتزاز علاقة مصر بكوريا الشمالية». ونقلت الصحيفة الأمريكية عن صحيفة «الشروق» المصرية قولها: «أن مصر تريد أن تكون مع الجانبين»، وتأكيد «واشنطن بوست» على «تقرير الأمم المتحدة الأخير، الذي أظهر حرص مصر على استمرار علاقاتها مع كوريا الشمالية، رغم قيام سلطاتها باعتراض سفينة أسلحة كورية شمالية؛ تنفيذا للعقوبات الدولية على بيونغ يانغ»..
وأوضحت الصحيفة أن الإدارات الأمريكية السابقة حاولت الضغط على دول مثل مصر لقطع علاقاتها مع كوريا الشمالية، إلا أن هذه المحاولات لم تنجح؛ حتى أن هناك خبراء شككوا في قدرة واشنطن على إنفاذها. ورأت الصحيفة أن الوضع تغير تحت إدارة ترامب، التي قامت بتوقيع عقوبات على أفراد وشركات صينية وروسية؛ تعاملت مع كوريا الشمالية، وابتكرت الإدارة الأمريكية طرقا لضمان إنصياع الدول الأخرى للعقوبات الدولية
وأضافت الصحيفة: «يبدو أن ترامب أبلغ السيسي خلال مكالمة هاتفية جرت بينهما في تموز/يوليو الماضي؛ أبلغه بضرورة وقف التعاون المصري الكوري الشمالي.. والتوقف عن الاستعانة بفنيين كوريين شماليين، وعدم تقديم تسهيلات اقتصادية أو عسكرية لهم»، بحسب بيان صدر عن البيت الأبيض.. وبدا ذلك إنذارا أدى بـ«المشير» إلى إرسال وزير الدفاع على وجه السرعة إلى «سيول»؛ ليعلن منها قطع العلاقات مع بيونغ يانغ».
وهذه فرصة القوى الوطنية المصرية في عام الانتخابات الرئاسية لفتح ملف المساعدات الأمريكية لمصر؛ كمحفز للحراك السابق على الانتخابات الرئاسية، الذي انطلق الشهر الماضي؛ على أن يقوم الخبراء الوطنيون بنشر الحقائق والمعلومات الكاشفة لمدى الفائدة والضرر من استمرار الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية على ما هي عليه.
ونقل موقع «المعرفة» الالكتروني بعض ما ورد في دراسة صدرت من مكتب محاسبة الإنفاق الحكومي التابع للكونغرس الأمريكي بشأن طبيعة وكيفية صرف مصر للمعونة، والمنشورة في «واشنطن ريبورت» (مايو/أيار 2006)، وذكر أنها «ساعدت في تعزيز الأهداف الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة». وأوضحت أن الأعمال الأمريكية التي نُفذَت نتيجة تقديم هذه المساعدات شملت عدة أوجه منها:
ـ السماح للطائرات العسكرية الأمريكية باستخدام الأجواء المصرية.
ـ منح تصريحات على وجه السرعة لعبور 861 بارجة حربية أمريكية قناة السويس؛ ما بين 2001 إلى 2005، وتوفير مصر الحماية الأمنية اللازمة لعبور تلك البوارج.. (وهي فترة شهدت غزو العراق)!!
ـ قيام مصر بتدريب 250 عنصرا في الشرطة العراقية، و25 دبلوماسيا عراقيا خلال عام 2004
ـ إقامة مستشفى عسكري، وأرسال أطباء إلى قاعدة «باجرام» في أفغانستان بين عامي 2003 و2005، وتلقى أكثر من 100 ألف مصاب رعاية صحية كاملة..
بدأ تقليص المعونات المقدمة من الدول الصناعية إلى الدول النامية منذ تسعينات القرن الماضي، وتحولت من معونات حكومية للتنمية، إلى تمويل أنشطة تجارية واستثمارية، وطبقت واشنطن ذلك مع بداية عام 1998، وتم تخفيض المعونات الاقتصادية لمصر من عام 1999 بنسبة 5% سنويا، إلى أن انخفضت إلى النصف تقريبًا بحلول عام 2009 (من 815 مليون دولار في 1998 إلى 407.5 دولار عام 2009). وما زال التخفيض مستمرا حتى وصل إلى المعدل المتدني الحالي؛ تمهيدا لإيقافها نهائيا، ومن الكرامة الوطنية أن يكون الإيقاف «بيدي لا بيد عمرو»!!..
٭ كاتب من مصر
محمد عبد الحكم دياب