تعتبر «الرسالة» من الأغراض الأدبية التي لجأ إليها أكثر من كاتب. أتذكر مثلا قصيدة «رسالة من تحت الماء» لنزار قباني، كما اتذكر رسائل أحمد أمين «إلى ولدي» في إرهاصات دراساتي الأدبية العربية.
وفي الأدب الفرنسي «الرسائل الفارسية» لمونتسكيو، وفي المجال الديني رسائل التلميذ بولس إلى الجماعات في طور التحول إلى المسيحية في زمانه.
هل قراءاتي الأدبية هي التي تقودني الآن إلى التفكير في إرساء حديثي في مقال هذا الأسبوع في قالب «الرسالة» لأتناول بدوري الواقعة التي تجري حاليا على كل لسان في فرنسا لأنها تدمي الفؤاد وتحز في النفس؟
فكرت في كتابة هذه الرسالة الى «جزرنا التي تتألم» في منطقة الأنتيل الفرنسية، وهي منطقة تشكل موقعا يكاد يشمله نسيان الوعي الوطني الفرنسي، الذي لا يزال يربط مصيره بإفراط شديد ومبالغ فيه بحدود بلدنا، كما حددتها القارة العجوز، في صورة ما نسميه نحن هنا بفرنسا «السداسية».
«رب صدفة خير من ألف ميعاد»، مقولة سأعيدها إلى الواجهة بهذه المناسبة، لأن معرفتي بهذه المنطقة التي تتألم، معرفة ضاربة الجذور في الصدفة أيضا. صدفة الصداقة التي تدفعك أحيانا إلى قطع الأميال للحاق بأصدقائك كما حدث لي عندما شددت الرحال إلى أقاصي الأراضي الفرنسية في زيارة مطولة إليها حديثا. واذا كانت عبارة «رب صدفة» تستعمل عادة في سياق مسر، أقيم في حديثي هذا عن «جزرنا في ما وراء البحار» صلة بين المسر والمؤلم تحتم نبرة رسالتي لأن الظروف حتمتها.
ايتها الجزر النائية عنا مسافة، القريبة منا قلباً، كيف انسى بشاشة أهاليك، وهم يستقبلون المسافرين منذ وصولهم إلى مطار قطب الكاريبي في مدينة Pointe à Pitre في أرخبيل الغوادلوب؟ كيف أنسى كيف قادتني الصدفة للإقامة بين ظهرانيك لمدة أتاحت لي التعرف على عدد من بلداتك؟ كيف انسى حفاوة استقبال الأسر التي شاءت الأقدار أن ازورها؟ لن أنسى بحارك اللازوردية، التي تلامس المخيال الجماعي بفسحة أبدية تلغي المكان والزمان .لن انساها وأنا أشاهد نشرة الأخبار التي تعرض شهادات من تهدمت منازلهم يقفون أمامها على خلفية هذا اللازورد الخلاب. لن أنسى أن وراء السياحة اقتصادا وأن وراء الاقتصاد انسانا.
اتذكر ليلة في مدينة «سان فرانسوا» الواقعة على «الأرض الكبيرة» في الغوادلوب… وانا أشاهد صورا لسفن تقل منكوبين وصلت مدينة سان فرانسوا وتساؤلاتكم، لماذا يقل المركب 95% من السكان الامريكيين وماذا عن أهل الجزيرة؟ أتذكر هذه الفتاة من هندوراس التي فقدت أسرتها في جزيرة سان مارتين وقد انقلب المركب الذي يقل اسرتها بالكامل، فلم ينج منها سوى الفتاة التي اوصلتها الأمواج العاتية بأعجوبة إلى بر الأمان (وهنا يقاطع معنى العبارة المجازي معناها الحرفي) .
أريد أن انقل لكم أعزائي في فرنسا وقرائي في كل مكان أجواء الحياة على هذه الجزر التي يعرف سكانها دائما أن الإعصار يقف لهم بالمرصاد لكنهم يعجزون عن تحديد درجته، فضلا عن مقدار الرياح العاتية ومستوى البحر الهائج.
بودي أن يصلكم من سطوري وقع هذه الحياة البسيطة الهادئة التي تعم الناس في الأجواء الطبيعية لجزر الأنتيل فاستحضر حبهم للحياة وعاداتهم وتقاليدهم الخاصة بهم، وكلها فريدة. فريدة لأن من يعيش في ربوع فرنسا يكتشف حياة جديدة في الجزر: الطبخ، البيئة الطبيعية، الرحلات من جزيرة إلى جزيرة أخرى.
من الصعب الدخول في الجدل الدائر بشأن مستوى تأهب الحكومة الفرنسية التي يرى البعض أنها لم تعد العدة الكافية. صحيح أن هناك من يتساءل كيف أمكن لأهل سان مارتين البقاء لأربعة أيام بلا ماء وبلا كهرباء بدون تدخل لفرق الانقاذ، لكن هناك من يرى ايضا أن إعصارا بهذه الدرجة كان صعب التحديد، وأن الحكومة الفرنسية أعدت العدة ولم يكن في وسعها عمل المزيد. فمثلا، أشادت منظمة «معماريون في حالات طوارئ» في هذا السياق بجهود الحكومة الفرنسية ليثني متحدثها على قناة BFMTv بتفاعل وزيرة ما وراء البحار مع الكارثة، عندما استقلت طائرة محملة بمواد الإغاثة يصاحبها عدد من أفراد طاقم الإنقاذ، غداة وقوع الإعصار وما خلفه من الأضرار الجسيمة.
اما روح المواطنة والتضامن في هذه الظروف فأحب نقل خبر تلقيته هذا الصباح من أن الإذاعة الفرنسية، فتحت قناة اذاعية خاصة يمكن متابعتها بسان مارتين على الامواج العاملة بالمكان نفسه، وكذلك عبر خدمة France Info الإخبارية على مدار الساعة، وترصد القناة تطورات الوضع الميداني لإطلاع المستمع على حالة الطرقات وإمكانية استخدام المياه من عدمها مرورا بوجوب التأكد من مصداقية مصادر الاخبار المنقولة لتفادي بث إشاعات تسهم في تفاقم الوضع بدل معالجته.
ايتها الجزر النائية عنا مسافة، القريبة منا قلبا، انقل لكم تضامن اخوتكم في العالم انى وجدوا وأتألم قارئي العزيز في العالم العربي وغيره، من محادثتك في موضوع مؤلم، لكن في الوقت نفسه ظهرت مناسبة وقفت فيها معي عند واقع فرنسي ربما أضاف إلى رصيد معارفك بعض الإضافة.
ايتها الجزر النائية عنا مسافة، القريبة منا قلبا ، نودعك باقلامنا، ليس بقلوبنا.
وهذا مبعث سعادتي.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي
بيار لوي ريمون