رسالة اسطنبول ـ مشاكل كبرى وإنجازات أكبر

تبهرني هذه المدينة بحيويتها وديمومة الحركة فيها وكأنها خلية نحل. تشعر أن المدينة صورة مصغرة عن العالم بأسره. كل الوجوه والألوان والأعراق واللغات تتزاحم أمامك منذ دخولك أرض المطار، في الطرق والحوانيت والأسواق والقطارات والأنفاق والعبارات والمواقع السياحية. تخبئ المدينة الكثير من الهموم الكبرى فلا تشعر وأنت تدلف من شارع لآخر ومن موقع تاريخي عثماني إلى موقع بيزنطي إلى برج حديث بأن هناك ما ينغص حياة القوم أو يعكر مزاجهم رغم أن العكس هو الصحيح.
المشهد التركي الأشمل يختلف كثيرا هذا الصيف عن سوابقه. البلاد تمر في أزمة حقيقية تتعلق بالاستقرار والحريات والاقتصاد وقيمة الليرة والصراع المستعر على الحدود وتفاقم نظرية تصفير الأزمات إلى إنفجار العديد منها. وما إن تتحدث لأي عربي أو تركي في متجر أو مركب أو مقهى حتى يضع اللوم على شخصية رجب طيب أردوغان وسياساته المتعجرفة وتحوله إلى شبه دكتاتور ومحاولاته لجم المعارضة وإسكات الصحافة والتصرف بعليائية واضحة، مستندا إلى سلسلة إنجازات كبرى وضعت تركيا في مصاف الدول العظمى اقتصاديا واعدا أن يصل بها إلى المرتبة العاشرة مع حلول الذكرى المئوية لقيام الجمهورية عام 2023 ويعد أيضا أن يكون على مقعد الرئاسة حتى ذلك الحين. ويؤكد من تحدثنا معهم أن نتائج انتخابات حزيران/يونيو الماضي لم تكن إلا إنعكاسا لتبرم النخب والأحزاب بسياسة أردوغان وعنجهيته وعناده وليس بالضرورة على مسيرة النهضة والتحديث التي قادها حزب العدالة والتنمية والذي ما زال يحظى بشعبية عالية خاصة في الأرياف والمناطق المهمشة التي استفادت من نهضة العقد الأخير.
يقترب سعر صرف الدولار الآن إلى ثلاث ليرات بعد أن كان 1.7 قبل ثلاث سنوات. انه المؤشر الأسهل الذي يؤكد أن هناك أزمة حقيقية متعددة الجوانب تعيشها البلاد. ومن مؤشرات الأزمة الإعلان عن انتخابات مبكرة في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل بعد أن فشل حزب العدالة والتنمية في تشكيل حكومة ورفض الرئيس إعطاء فرصة لحزب الشعب الجمهوري لتشكيل حكومة لأن ذلك كما قال مضيعة للوقت. لقد جاءت الانتخابات بمثابة إجراء عقابي على سياسات أردوغان المتعلقة بدول الجوار وخاصة سوريا وغض الطرف عن تدفق المتطوعين الإرهابيين إلى الداخل السوري والتورط في معركة مع الأكراد والعمليات الإرهابية على الحدود والتي أعادت إلى الأذهان هجمات حزب العمال الكردستاني فيما مضى. لقد نجح أردوغان وحزب العدالة والتنمية في أن يجذبا الأكراد في الانتخابات السابقة بعد الاعتراف بوجود مشكلة كردية وحلها يكون بالمصالحة والإشراك، لكن الأكراد في انتخابات حزيران/يونيو الماضي انفضوا من حول العدالة والتنمية وانكفأوا إلى داخلهم بتمكين حزب الشعوب الديمقراطي الذي رفع حصة الأكراد من 36 مقعدا عام 2011 إلى 80 مقعدا هذه المرة. كما أن النساء رفعن من نصيبهن من 79 مقعدا في الانتخابات السابقة إلى 98 مما دعا بعض المحللين أن يطلق عليها «ثورة ثقافية». أضف إلى ذلك أن طريقة التعامل مع الحركة الاحتجاجية التي نشأت قبل سنتين في حديقة غازي في منطقة تقسيم وتم سحقها تطورت لتصبح حركة معارضة حقيقية تمتد من اسطنبول لتشمل الوطن بأكمله.
إذن كان تراجع حزب العدالة والتنمية إلى أقل من 41٪ من أصوات الناخبين بمثابة «إبرة منبه» في ذراع الحزب وقياداته ليجروا مراجعة شاملة لمسلكيتهم في السنوات الأربع الماضية والتي غرقت فيها البلاد في ملفات المنطقة وخاصة سوريا وجلبت تلك السياسة «الدب إلى كرمهم». وقد تسهم هذه المراجعة في عودة أقوى للحزب في الانتخابات المقبلة كما تشير إستطلاعات الرأي.
لكني أريد في هذه الجولة الاسطنبولية وبعد المقدمة السياسية أن أعود مرة أخرى لأقدم بعض المشاهد من المدينة الحية دائما والمليئة بالقصص الصغيرة والكبيرة فلا تعرف من أي النقاط تبدأ ولا إلى أي المواقع تنتهي.

اسطنبول مربط خيلنا

كان العرب منذ زمن يقولون «لندن مربط خيلنا» على إعتبار أن الذي يدير دفة السياسة في المنطقة العربية ولمدة نصف قرن من الزمن كانت حكومة التاج البريطاني. وعندما إنفجرت الحرب الأهلية في لبنان عام 1975 فر العديد من الصحافيين والكتاب والكوادر العلمية والثقافية إلى لندن. ولا غرابة أن صدر من لندن العديد من المجلات العربية أولا ثم أطلقت أول محطة فضائية ثم ما لبثت أن إنطلقت ثلاث صحف دولية يومية فيما سمي «بالصحافة المهاجرة». تغيرت الأمور كثيرا بعد ما سمي بالحرب على الإرهاب. العربي لا يشعر بالراحة وهو يجوب شوارع لندن وباريس لابسا دشداشته البيضاء وخلفه عدد من النساء المبرقعات أو المخمرات أو المحجبات. نظرة من الوجس يشعر بها كل من يسير في عواصم الدول الغربية. اسطنبول هي العنوان الجديد لكل العرب. تكاد تقسم ان كل من يقفون في الصفوف للدخول إلى قصر الباب العالي (طوب كابي سرايا) أو قصر دولمة بهجة أنهم في غالبيتهم من العرب. وللتأكد من ذلك سأل المضيف في سفينة عشاء ليلية تعبر البوسفور أن تعرف كل مجموعة بالبلد الذي جاؤوا منه ثم يضعون على المائدة أمامهم علم بلادهم. وأثناء مخور السفينة عباب البوسفور يقوم المضيف بتقديم التحية وعزف موسيقي للبلاد الممثلة على متن السفينة. فإذا به يوجه مرة تحياته للكويت ثم الإمارات فالجزائر فمصر ويصل إلى فلسطين والأردن والسعودية مرورا بسوريا والعراق ولبنان. ولولا وجود مجموعتين من الهند وسري لانكا وبعض الأفراد من دول آسيوية وأوروبية لاقتصر الحضور على العرب. قلت لزوجتي وللمجموعة التي رافقتني على المائدة لقد وحدتنا مدينة اسطنبول كما لم توحدنا بلادنا.

التسول واستغلال الأطفال

ظاهرة تقطع القلب. تريد أن تصرخ وتحتج لكثرة ما تشاهد من متسولين وخاصة من النساء يرمون أمامهم طفلا صغيرا أحيانا لا يتجاوز الثانية أو الثالثة لجلب عطف المارين. أقسم لنا أحد العرب الذين يعيشون في المدينة أن بعضهم يعطون نوعا من المخدرات أو الكحول حتى يبدو وكأنه مريض أو عديم الإحساس لزيادة التعاطف معه وقال «غالبية هؤلاء الأطفال لا يمتون بصلة لمن يتسول باسمهم وبسببهم، بل يستأجرونهم من عائلات فقيرة ثم يتقاسمون الغلة في نهاية النهار». منظر صدمني بشدة حيث كانت طفلة ربما في الرابعة مع سيدتها التي تجبرها على أن تضرب الطبلة. يتجمع الناس حولها ويرمون ما تجود به أنفسهم على منديل مفروش قرب الطفلة. تعبت الطفلة وتوقفت عن قرع الطبلة فحاولت سيدتها أن تجبرها على الاستمرار بعد أن إتسعت دائرة المتفرجين وإذا بالطفلة تنهار من البكاء لوجع في يديها. منظر أثار كثيرا من الاستياء والاحتجاج والألم. صحت بصوت عال ألا يوجد بوليس هنا؟ أين الحكومة كيف يمكن السماح لهؤلاء بابتزاز الأطفال وانتهاك حقوقهم وتمزيق طفولتهم بهذا الشكل الفج؟
وتعليقا على المشهد حدثني صديق يسكن اسطنبول قال إنه شاهد في فصل الشتاء متسولا يرمي طفلا قرب رجليه بدون معطف أو غطاء فيتعاطف الناس مع الصبي ويذهبون إلى المتجر المجاور ويشترون له معطفا صوفيا دافئا. يفرح الولد ووالده أو من يدعي أنه والده، ثم ما يلبث أن يعيد الوالد المعطف إلى المتجر ويسترد ثمنه من التاجر وتتكرر العملية في اليوم عشرات المرات. في كل زاوية وشارع ونفق ومحطة تجد المتسولات وبرفقتهن أطفال يتصببون عرقا في يوم حار. الشيء الذي يفتت القلب أن أكثر المتسولين من السوريين. السوريون في كل مكان. منهم التجار والعمال والمتسولون واللاجئون وأصحاب المصانع والأغنياء. أكثر من مليون ونصف ينتشرون في كل مكان فلا نستغرب أن ردة فعل سلبية بدأت تنتشر بين الأتراك الذين فقدوا كثيرا من الأعمال والوظائف للأيدي العاملة الرخيصة القادمة من خلف الحدود الجنوبية بحثا عن الأمان ثم عن لقمة العيش الشريفة بانتظار أن يتعافى الوطن.

قصور ما قبل الانهيار

إذا أردت أن تعرف بعض أسباب إنهيار الدولة العثمانية فما عليك إلا أن تزور قصر «دولمة بهجة» أو كما يسمى بالتركية «دولماباتشي سرايا» الواقع على شاطئ البوسفور في الجانب الأوروبي. استمر بناء القصر 13 سنة بين 1843 إلى 1856 وبناه السلطان عبد المجيد وكأن قصور السلاطين الأخرى لم تكن كافيه. وقد شهد القصر ستة سلاطين قبل إنهيار الإمبراطورية العثمانية عام 1924. أغلق لفترة قصيرة ثم إستخدمه مصطفى كمال أتاتورك وتوفي فيه وأوقفت عقارب الساعة على موعد وفاته وإلى الآن حيث تشير إلى 9:05 صباحا يوم 10 تشرين الثاني/نوفمبر 1938.
استخدمت بطاقتي الصحافية لأدخل معظم أجنحته ومقصوراته التي تبهر العين بجمالها وروعتها ودقة صنعها. انه تحفة فنية في العمارة الإسلامية الفريدة مضاف إليه لمسات فرنسة وصينية وإيطالية. مكون من عدة قصور وأجنحة كقصر الجواري وقصر الأعمدة الرخامية وبرج الساعة والقصر الزجاجي. قطع من السجاد الأصيل والخزف الثمين واللوحات الزيتية والثريات الثقيلة حيث يضم ثاني أكبر ثريا في العالم وتزن أربعة أطنان ونصف. بلغت تكاليف القصر ما يزيد على 35 طنا من الذهب الخالص أي ما يعادل المليار ونصف بحسابات اليوم. ويضم 285 غرفة و 44 صالونا و68 مرحاضا وستة حمامات تركية.
بني القصر في الوقت الذي كانت تخوض فيه الإمبراطورية العثمانية عددا من الحروب في الشرق والبلقان والشرق الأوسط، حيث كان إبراهيم باشا يسيطر على بلاد الشام والحجاز إضافة إلى مصر والسودان. وكانت الإمبراطورية مثقلة بالديون وبدأت تتداعى من أطرافها وأطلق عليها «رجل أوروبا المريض».
يذكرني بناء القصر هذا بالقصور التي بناها أولاد صدام حسين أثناء سنوات الحصار وقصر الرئاسة في رام الله الذي ستصل تكاليفه إلى 13 مليونا. يبدو أن بناء القصور بهذه الفخامة إنذار مبكر لاقتراب لحظة السقوط.

٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرزي

د. عبد الحميد صيام

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول خليل ابورزق:

    من طبيعة النفس البشرية الضجر و حب التغيير و التجديد و الا لما حدث ما حدث من التقدم.
    طبيعي ان يضجر الناس من استمرار الحاكم 12 سنة على الرغم من كل نجاحاته كما في حالة اردوجان اليوم و من قبله بلير و تاتشر في بريطانيا، فما بالك بمن يجلسون على صدور شعوبهم عقودا و بدون نجاحات بل بفساد و تخلف و اعتداء على كرامة و حقوق الانسان الاساسية. ثم يفوزون بنسبة تفوق اجماع الناس على الانبياء و الرسل!!!!!!!

  2. يقول خلدون بيك:

    الصحفي الهمام منتقدا رجل ذو إنجازات شهد بها حتى خصومه هل يجرؤ على انتقاد أحد من حكام العرب العديمي الإنجاز؟؟؟؟

إشترك في قائمتنا البريدية