تلقيت العديد من رسائل القراء التي تبدي ارتياحها لتواصلي معهم، وهو ما فعلته منذ بداياتي الكتابية.
فالإجابة على معظم رسائل القراء ممتعة وتهون امام تلقي رسالة من قارئ ارتكب جريمة قتل وكتب لي قبل انتحاره ليفضح الجميع، واسمه مهدي ي. واسم رجل الأعمال الآخر الذي قتله ع. س. وذلك بسبب عمولة مالية بملايين الدولارات من المفترض أن القتيل وشقيقه لم يسدداها للمنتحر. وقد رويت الحكاية كاملة مع الأسماء والوثائق في اربعين صفحة من أحد كتبي ولن أذكر إسم الكتاب (فما أخطه الآن ليس من قبيل الدعاية لأحد كتبي!!) ونشرته قبل ذلك في مجلة «الأسبوع العربي» التي توقفت عن الصدور، مع الأسماء كاملة ـ كما في الكتاب.
وصلت رسالة المنتحر القارئ بالبريد المضمون من فندق الـ»كومودور» في بيروت، حيث سلمها قبل انتحاره للموظف المختص كرسالة (عادية) لإرسالها لي إلى مقر عملي يومها في مجلة «الأسبوع العربي». وقبل أن تصلني تلك الرسالة بالبريد كنت قد قرأت في الصحف عن رجل أعمال عربي إنتحر في غرفته في فندق الـ»كومودور» واعترف في رسالة تركها لرجال الشرطة بأنه فعل ذلك إثر قتله لشريكه السابق ع.س. وأن الجثة موجودة في الغرفة رقم كذا في فندق الـ»هوليداي إن» في بيروت أيضاً، وذُكر في «عمود الجرائم» أن رجال الشرطة ذهبوا إلى الغرفة إياها ووجدوا جثة القتيل داخل المقعد الذي يطوى في الحائط، كما جاء ذلك في رسالة المنتحر القاتل مهدي .ي، الذي طلب مني في رسالته المساعدة في تحصيل ماله ليذهب إلى أسرته وأطفاله. وذكر في رسالته لي عنوان تلك الأسرة في برلين كما ذكر إسم شركة من قتله وشقيقه في الكويت وبقية أصدقائه والمطلعين على الحكاية والصفقة المالية الكبيرة التي كانت السبب!
لرسائل المحتضرين سطوة إستثنائية. ها هو قارئ على وشك الإنتحار يكتب لي بدلاً من كاهنه أو طبيبه النفساني أو حبيبته، وشعرت يومها أن الكاتب مسؤول بطريقة ما عن بعض قرائه!
هل المنتحر رجل آخر؟ ومن؟
وهكذا ركبت الطائرة إلى الكويت للإلتقاء بشقيق القتيل في شركته الكبيرة الشهيرة لأطالبه بتسديد المبلغ إلى أسرة قاتل شقيقه القارئ المنتحر. قلت لنفسي: إنه مجرم لكن أطفاله يستحقون المال إذا كان صادقاً في رسالته (كوصية ما قبل موته). واستقبلني شقيق القتيل وكانت في فمه حقيقة أخرى وهي أنهم سددوا كل ما عليهم للمنتحر، وأطلعني على أوراق قال إنها تثبت ذلك، لكنني لست خبيرة في القضايا المالية، وظللت حائرة وهاجسي ايصال المال إلى أطفال القارئ/المنتحر.
من يستطيع إختراع دواء منوم لفضول كاتب وجد نفسه في شبكة إنسانية متلاطمة من رجال المال والأعمال؟ وذهبت أيضاً في الكويت للقاء صديق المنتحر وهو طبيب معروف والمفترض أن لديه معلومات حول الأمر، كما التقيت بشقيق المنتحر رجل الأعمال والشريك وعدت من الكويت وأنا أكثر حيرة وفضولاً: ثمة من أنكر أن صورة المنتحر في الصحف هي صورة مهدي. ي وعلمت أنه نحيل وهش وبالتالي غير قادر على حمل القتيل ووضعه في المقعد وطيه، وتساءلت: هل يمكن أن يكون مهدي حياً؟ أحد الشهود في الكويت قال إن القاتل هو الإبن الأكبر للقارئ المنتحر لكن الصديق الطبيب أكد أن الإبن غير قادر على ذلك فهو مصاب بمرض القلب ونصف مشلول.
الحب والفضول
لدى الجميع مرضان لا علاج لهما: الحب ثم الفضول وبالذات لدى الروائي أمام الشبكات المكهربة لحقائق العلاقات البشرية التي تتأزم كثيراً حين يتعلق الأمر بمئات آلاف الدولارات أو ملايينها.
وهكذا طرت إلى برلين للقاء أسرة المنتحر وأنا أتساءل: هل سيفتح لي أحد الباب؟ هبطت من التاكسي أمام عنوان البيت المتواضع الذي جاء ذكره في رسالة المنتحر. حذرني سائق التاكسي قائلاً بإنكليزية هشة «تبدين سائحة، فما الذي جاء بك إلى هذه الضاحية الخطيرة؟».
أجبت: أريد زيارة أسرة تقيم هنا. ومضت السيارة وبقيت تحت المطر أمام باب في شارع خاو.. وأعترف انني شعرت ببعض الخوف حين لم أجد إسم المنتحر ضمن أسماء المقيمين والأسماء لصق الأجراس. هل أقرعها كلها؟ خطوت نحو الصناديق البريدية ووجدت إسمه. وقرعت باب الطابق الأول وتصادف أن كان بيت أسرته هناك. إستقبلتني زوجته بلطف وفضول وهي سيدة ألمانية جميلة تتحدث بالإنكليزية، وكانت قد تلقت أيضاً من القارئ/المنتحر رسالة ذكر فيها شيئاً عني. والتقيت مع أولادهما وبعضهم دون العاشرة وغادرتهم مقتنعة بأن الإبن الأكبر مريض وليس قاتلاً.. وازدادت الحكاية غموضاً، وحين غادرت بيتهم ندمت لأنني لم أطلب منهم قبل ذلك المساعدة لتأمين (تاكسي) العودة وكانت تمطر والشارع خاو: لا مخلوق بشرياً، لا قطة، لا بومة. لكنني عدت حية إلى بيروت!
هذا ما يمكن أن تفعله رسالة من قارئ قبل انتحاره إلى أحد الروائيين. وقد تكشفت لي خيوط عن مافيا كبيرة تدير ذلك النوع من التجارة وقررت يومها أن على قلمي الأعزل التوقف عن متابعة تلك الحكاية وكل ما يشبهها. ومن دمشق جاء المخرج السوري بلال الصابوني طالباً مني حقوق تحويل الحكاية إلى فيلم سينمائي، كما طلب مني كتابة السيناريو واعتذرت لأنني ببساطة غير موهوبة في هذا الحقل ولو ظهر الفيلم لكان الرائد الأول لنمط صار منتشراً بكثرة عن إمرأة محققة، تتعرض للمخاطر.
الشاعرة الرسامة سوزان عليوان
بالمقابل، ثمة رسائل من القراء تبعث الغبطة في القلب أذكر على سبيل المثال رسائل لي من زمان من صبية صغيرة إسمها سوزان عليوان تبعث لي بقصائد تكتبها.. ولاحظت يومها أن تلك الصغيرة سناً تتمتع بموهبة أكيدة وكنت أدعم نشرها في مجلة «الحوادث»، وكبرت سوزان ونضجت ومعها موهبتها ولها اليوم عدة دواوين شعر حظيت بالكثير من التقريظ من النقاد، وظلت تتواصل معي بوفاء وتهديني كتبها الشعرية، وكم فرحت حين أرسلت لي بطاقة إلى محاضرة لها بدعوة من «الجامعة الأمريكية» في بيروت لقراءة شعرها، وكانت البطاقة تحمل رسماً منها (فهي أيضاً فنانة تشكيلية) وأحببت اللوحة فأهدتني إياها ونشرتها على غلاف روايتي الأخيرة «يا دمشق وداعا».
ما من بهجة توازي الإنحياز إلى برعم يتحول في ما بعد إلى حديقة جميلة للعطاء، والإنحياز إلى القراء لحظة وفاء.
غادة السمان
لا أدري ما الذي جعلك تخاطرين بنفسك بحادثة قتل وانتحار
وكأنك أجاثي كريستي أم انه كان نوعا من التغيير
أعترف لك بجرأتك يا أستاذة غادة
هل كل من حملت اسم غادة جريئة هكذا
كالمذيعة غادة عويس والكاتبة غادة الشاويش والأديبة غادة السمان
ولا حول ولا قوة الا بالله
السلام عليكم
أكيد لقد لأثرت فيك تلك الرسالتين والتي تحمل كل واحدة نظير الاخرى وقد وقفت أمامهم موقف مشرف وأديت ما عليك كإنسان وكقلم يريد التوق والعلا وقد وفقت الى حد المجازفة مغ الرسالة الاولى ووفقت في الثانية الى حد وصول صاحبها الى بر الامان وسقيت جذورها فأتت أكلها …وهنا بين قوسين أهمس لك في أذنك لوحدك رغم رسائلي المفعمة بالحب الادبي الخالص لك لم أجد لها أثرا في مفالاتك التي لم استطع أن أمر عليها دون قراءتها والتلذذ بحروفها وأحيانا أتصنع المقال فقط من أجل أن تلامس حروفي حروفك…
ولله في خلقه شؤون
وسبحان الله
اخت غادة، مقال رائع و مثير. الانسان احيانا يجد نفسه محتارا بين العقل والقلب، كاحتيار ابن رشد و الغزالي بين العقل و النقل.
شكرًا.
وماذا يقول عاشق مثلي غرق في رسائل الحنين ولم يعرف كيف يغادر
مدينة لم يسكنها وسكنته وبشر لم يلتقي بهم واحبهم ..
صعقت مثلك يوم وفاة الاديبة الكبيرة سميرة عزام واصابني الفضول وخفت
من تلك الرسالة التي بعثت فيها سطورها الاخيرة لكِ .. وكما كتبتي يومها ” رحلت
حنجرتها ولم يبق إلا صرختها في مظروف ” ! . ورغم حرقك للرسالة في اخر المطاف مازال الفضول يأسرني ترى ماذا ارادت ان تقول لك ؟ّ!
ولا انسى يوم كتبت لك دمشق لاول مرة بعد عشرة اعوام من
ذاك الشجار العنيف ” شجار العشاق ”
رقص قلبي مع حرفك واشتعل خيالي بتلك الاماكن اللامنسية وصرت
اردد معك وكأني صدى لصوتك ” ترى من وقعها لي ؟ قاسيون ؟ الغوطة ؟
ساحة النجمة حيث تربيت وكبرت وحزمت حقائبي ورحلت ؟ ”
وخاب املي وحزنت حين اكتشفت ان الرسالة التي انتظرتها معك
كانت عبارة عن فاتورة !
هذه صورة نادرة اثناء ذهابك الى الكويت في الستينيات
اتمنى نشرها
http://up.arabseyes.com/uploads2013/23_05_15143233585680781.jpg
مرحباً بك سيدة غادة ..
بالطبع يوجد لدى الإنسان حب إستطلاع وفضول قد يسوقه إلى طريق التهلكة او التهمة
لهذا تغليب العقل على العاطفة أحياناً ضروري في بعض الأمور خاصةً المبهمة
ثم إنني أتساءل :لماذا لم تلجائي تلقائياً إلى الشرطة في البلد التي حدثت فيه الجريمة
لربما كنتِ ساعدتي المنتحر وعائلته بشكل إيجابي افضل من تعريض نفسك للخطر والمسألة
من مبدأ أعطي الخبز للخباز وإن أكل نصه
شتان بين الإثنان وأعني المنتحر القاتل والقتيل، وبين الدواوين الشعرية واللوحات التشكيلة
الإجرام بكل أشكاله مهلكه وحقوق ضائعة .. والأهداف النبيلة الواضحة نهايتها مفيدة وسعيدة
..
حدث مؤلم ومأساة تتكرر أحداثها وتحصل حتى بين العائلة التي تجمعهم رابطة الدم لابد من أن تترك آثار وشروخ في نفوس وقلوب عائلة القاتل والقتيل . عندما تتحول نعمة المال الى نقمة ويفقد الانسان روحه ويصبح المال سبب الى الانحراف والجنون والجريمة . طبيعة البشر أنه ضعيف أمام الاموال . وأن مجتمعاتنا مازالت تحمل مفاهيم خاطئة بأن مقاييس النجاح للأنسان فيها هو مقدارماعنده من مال . وتحترم الانسان الذي لديه المال وتقبل بالعريس الذي لديه المال وأن هدف الدراسة هو للحصول على الشهادة التي ستجلب له المال وغيرها من المفاهيم الراسخة في أعماقهم . نعم أن المال خادم جيد لكنه أيضا سيد فاسد ، فما قيمة المال تجاه حياة الانسان.
أفانين كبة
مونتريال