بغداد ـ «القدس العربي»: لا تنفك، وأنت تتمشى بين أزقة محلات بغداد القديمة، من النظر عالياً. تُبقي رأسك مرتفعاً وأنت تتطلع إلى حيوات تتقافز من الشرفات العالية التي تخرج من جدران البيوت القديمة وقد بدأت تذوب شيئاً فشيئاً كقطعة ثلج في نهار قائظ.
في أزقة ضيقة تتلوى وسط أنين بيوت لم يستطع سكانها الخروج منها منذ مئات السنين، لم يبق من جدرانها إلا طابوق متكسر يتناثر الغبار منه، وأصباغ تتطاير بعد أن تيبست منذ عقود ولم يتمكن سكان تلك البيوت من إرجاع ألوانها مرة أخرى بسبب الفقر الذي يعيشون فيه. وعلى الرغم من تلك الجدران المتهرئة، إلا أن نوافذ تلك البيوت ما زالت تعاند الزمن، وتقف بأخشابها وزخارفها ونقوشها في وجه كل أسباب اندثار ما يطلق عليه في بغداد «الشناشيل».
الشناشيل، ومفردها «شنشنول» هي شرفات خشبية مزخرفة هندسياً بالرسم على الزجاج، تعمل على إبراز واجهة الطابق الثاني من المنزل بأكمله أو غرفة من غرفه في شكل شرفة معلقة بارزة إلى الأمام. تنتشر غالباً في أحياء شعبية تهيمن عليها روح التقاليد المحافظة، بالبساطة التي تجدها متجسدة في النساء اللواتي يفترشن عتبات تلك البيوت، بينما تطل الفتيات على المارة في الشارع من خلف النوافذ الخشبية المرصعة بالزجاج الملون، والتي صممت كالشرفة للتقارب مع البيوت الأخرى.
تعد الشناشيل من أهم المعالم الفولكلورية البغدادية، وقد بقيت شاهداً على التحولات التي مرّت بها بغداد، اجتماعياً وحضارياً وسياسياً. تغور عميقاً في روح بغداد والمدن العراقية القديمة لتشكل لوحة تشكيلية ما زالت محلاّت بغداد القديمة محتفظة بها، في مناطق الأعظمية والفضل والبتاويين وأبو سيفين والحيدر خانة وحسن باشا ومحلة الذهب وباب الشيخ في جانب الرصافة، والرحمانية والكاظمية في جانب الكرخ.
ربما تختلف تسميات ما يعرف في العراق بـ»الشناشيل» في بلدان أخرى، فهي توازي في تصميمها شرفات البيوت المملوكية القاهرية والتي كانت تسمى بـ»المشربيات» وكذلك بيت الكرتلية في القاهرة القديمة، وتماثل أيضاً «الرواشين» في بيوت جدة التراثية، وكذلك البيوت التونسية القديمة.
يقوم البناؤون بصناعة الشناشيل من الخشب، لامتصاص الحرارة التي يعرف بها جو العراق، توازيها من الخارج ممرات بارزة على شكل (بلكون) على الجدار مطلة على الفناء التي لها عمل الشناشيل نفسها في الصيف. في حين تكون شبابيك الشناشيل عادة من النوع المنزلق عمودياً لتلافي تبذير قسم من الغرفة، ولصعوبة فرشها، وخاصة بجانب الشبابيك نفسها، والتي كانت المنفذ الوحيد لنظر نساء الدار، وهذا ما جعلها ذات زخارف مشبكة لمنع المارة في الطريق من التعرف على الشخص الناظر أو الجالس بالقرب منها.
يشير الشيوخ الذين يعيشون في تلك المناطق إلى الأسباب التي شيّدت على إثرها هذه الطرز المعمارية في بغداد وبعض المدن العراقية الأخرى، مثل البصرة والنجف، مبينين أن أهم مبررات تشييدها وفق ذلك الشكل هو البيئة المناخية الحارة للعراق، وقد عملت على توفير تيارات الهواء داخل البيوت، فغالباً ما يخطط لنحت تلك النوافذ في الأزقة الضيقة التي تتجاور فيها البيوت وتتقابل بشكل حلزوني لكي يحافظ سكانها على الهواء البارد في الصيف، كما انها تصد الرياح العالية شتاءً. إضافة الى أن تصميم هذه البيوت يؤدي إلى حماية أحدها للآخر من الشمس المحرقة صيفاً ومن زخات المطر شتاء، وبهذا فإن هندسة تلك البيوت تعرض أقل مساحة سطحية لأشعة الشمس. فضلاً عن أن التخطيط والإنشاءات المتلاحمة والكتل البنائية المتلاصقة هي نتيجة تبني فكرة استعمال الفناء الداخلي للبيت (الحوش) وكذلك تبني مبدأ توجيه الغرف ونوافذها نحو الداخل بدلاً من الخارج، ما عدا الغرف الخارجية للطابق الأول التي تحتوي على الشناشيل التي تعطي طرقات بغداد وأزقتها الميزة المعمارية الخاصة بها.
بعض المؤرخين والمعماريين يرون أن هذه الطرز المعمارية جاءت إلى بغداد عن طريق التأثيرات الأوروبية، بسبب توافد المهندسين الأوروبيين. إلا أن هذا الرأي لا يستطيع الوقوف أمام تاريخ بناء الشناشيل التي يرجع بعضها إلى بدايات العصر العباسي، والبعض الآخر إلى العصر العثماني، فضلاً عن شناشيل العصر الحديث، مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ومع عدم وجود الأدلة والوثائق، إلا أن هناك من يقول إن هذه الطرز ذات الطابع المتميز والفريد تعود إلى الحضارات السومرية والأكدية والآشورية والبابلية مروراً بعصر صدر الإسلام والعصرين العباسي والعثماني، بسبب البنائين الذين عرفوا منذ تلك العصور أولاً، ومزايا البيئة العراقية التي تنعكس على الواقع البغدادي. كما أن زخرفة الخشب (الشناشيل) هواية البغداديين القديمة، إذ يحكي أحد البنائين الذين ورثوا هذه المهنة أباً بعد أب، أن جده يروي له ما كان أجداده يتناقلونه جيلاً بعد جيل، من أن العراقيين كانوا يستوردون أنواعاً خاصة من الخشب من الهند، ومن ثمَّ يقومون بزخرفته وبناء شناشيلهم، التي هي صنعة بغدادية الجذور.
من جانب آخر يشير بعض الباحثين إلى أن هذه الطرز موجودة مع البناء العراقي منذ أقدم العهود، ولكن في العهد الإسلامي حدث تفاعل ما بين خصائص بغداد، وخصائص البلدان الإسلامية المرتبطة بالخلافة الإسلامية، ما أدى إلى تعزيز بعض العناصر الوظيفية والجمالية لهذه الشبابيك، فهي الهوية الأساسية للبناء العراقي التي تبلورت في العصر العباسي، إلا أن بعض التأثيرات البسيطة الجزئية طرأت عليها في الفترات اللاحقة للعصر العباسي.
وعلى الرغم من الفوائد التي تضفيها الشناشيل على البيوت، منها جمالية وأخرى وظيفية. فالجمالية تظهر في الزخرفة بأشكالها المختلفة، نباتية وهندسية، إضافة إلى إضفاء الجو العاطفي الرومانسي، نتيجة لتسرب أشعة الشمس من خلال الزجاج الملون، ليضيف ذلك على البيت جمالاً وتلويناً. هذه الميزات لم تجعل من الشناشيل والطرز البغدادية القديمة قوية إلى درجة مواجهة الزمن، فبقت الشناشيل معلقة تتأرجح في قلب جدران متهرئة وأخرى عبارة عن بقايا بيوت مهدمة مملوءة بالأزبال ما زال أصحابها يعيشون فيها. إهمال الحكومة العراقية ووزارتي السياحة والثقافة أغلق الآذان أمام صراخ المهتمين بالمحافظة عليها. فبدأت تتساقط بيتاً إثر آخر، من دون أن يلتفت إليها أحد. الكثير من المواطنين الذين ما زالوا يسكنون هذه البيوت لا يستطيعون هجرها أو بيعها، فالفقر لا يمكنهم من الإنتقال لبيوت جديدة، وقرارات الحكومة العراقية تركت هذه البيوت معلقة، فلا يتمكن أهلها من بيعها، ولا تقوم الحكومة بتعويضهم والمحافظة عليها كإرث حضاري ما زال شاهداً على تمدن المدينة العراقية الذي يضيء يوماً بعد آخر.
صفاء ذياب