إلى صبحي حديدي
1ـ سأكون المتسوّل على بابي
مرّة في طفولته البعيدة، أخذت أمّه بيده، واقتادته إلى مقام الصحابي أبي زمعة البلوي. تشبثتْ هي بالقضبان. وتسلّل هو قرب التابوت يدسّ في طربوش برنسه أصابع شمع وحبّات ودع.
مرة والوقت عتمة، سمع أصواتا تحملها الريح. كانت تدنو ثم تبعد. تعلو ثم تنخفض. ترتطم بأذنه ثم تتلاشى، لتعود محمّلة بروائح بَخور عتيق. ومن دون أن يشعر اندفع في ضمير الطريق الخالية إلا من أشجار الكاليبتوس. كانت الأصوات تتضح، وروائح البخور تحتدّ. اقترب محتميا بشجرة كاليبتوس ونظر: حلقة من الرجال والنساء يطرقون برؤوسهم إلى الأرض، ثم يشرئبّون إلى السماء. الليل مقمر مشوب بضوء الشموع، يبدو كما لو أنه بستان مشمس.
تتقلّص الحلقة، تنطفئ الأضواء. يترسّب البَخور في الرئتين، وينفتق الليل كالقنّب الوحشي. يهتزّ المقام، تختلج الدفوف، ويستنبت الجسد المأخوذ جناحين. يعرج المقام، تشتعل الشموع، تنحلّ الحلقة، تهدأ الدفوف. رجل منطرح أرضا. يتقدم السيّد. يهمس في أذنه. تضرب الدفوف. يتلوّى الرجل؛ ثم ينتصب، ويظلّ يدور ويدور.
أدور بعد هذا الزّمن، من باب الخوخة إلى المقبرة الهلاليّة إلى باب تونس إلى باب الجلادين إلى ربط الصفيحة. لا شيء غير قباب متصدّعة، انبجست في شقوقها أعشاب وحشيّة، وأبواب تعروها خضرة باهتة وشبابيك متربة. أرفع رأسي إلى أحدها، كان مغلقا وأسأل لو فتح؟ أعرف، ستطلّ أخرى، أنت لا تعرفها.
2ـ كالرسم هي الموسيقى
كأنّك لم توقن بعد هذا كله، أيّها البدويّ الصّغير، ولكنّك لا يمكن أن تنسى (الربع) أليس كذلك؟ صحيح أنّ الناس تغيّروا كثيرا، ولم يعد الربع كما كان أوّل عهدك في المدينة. كان الربع سوقا تجاريّة في النهار، لا يكاد الليل يقبل حتى يتحوّل إلى خمّارات مغلقة، ومجالس آداب وشعر، وتعمره فرق الموسيقى والإنشاد الصوفي. كان عمّك «الأخيل» أوّل من اقتادك إليه، في تلك الليلة من صيف 1968. (كان أفراد الأسرة في رحلة صيف، لجني اللوز، ولم تبق إلا أنت وهو في المدينة). سلكتما إليه من «القشلة» إلى «المر» إلى «زنقة المذبوح» إلى «اللفتات السبع» حتى أفضيتما على دار في آخره، ودخلتما.
كان المنشدون متحلّقين في وسط الدار يؤدّون «التعطيرة» (عطّر اللهم قبره الكريم بعرف شذى..) وقد انتصبتْ على مائدة تتوسطهم كؤوس بيضاء (عرفت في ما بعد أنها شراب الأنيزات). واليوم يساورك شكّ أهي دار أم مقام؟ أنت تذكر جيّدا، لا ريب، أنّ ذلك المكان (ربّما سقيفته أو حجرته المستطيلة؟) كانت تكسو بلاطه الزرابي القيروانيّة، وتتدلّى من سقفه ثريّات ومصابيح نحاس، وفي وسطه تابوت أخضر (قال الأخيل إنّه قبر فارغ. وعندما سألت: وأين ذهب صاحبه؟ قال، وهو يضحك: إلى الجنّة) وحوله سناجق ومباخر وشمعدانات، وفي ركن خزانة كبيرة تتكدّس فيها المخطوطات (قال الأخيل إنّها تحوي أدوية يستخلصها شيخ المنشدين من النباتات والأعشاب) وربّما مقصّ ومشرط حجامة وملقط فحم وأشياء أخرى لا تذكرها. ولكنّك تذكر، لا ريب، الشيخ وهو ينشد: «لكم مهجتي والروح والجسم والقلب..» والأخيل يهمس في أذنك، مزهوّا بمعارفه الموسيقية، هذه نغمة راست الذيل، وهذه نغمة النوا، انتبه هو الآن ينزل إلى القرار، هذه نغمة الأصبهان، إنها قفلة وقتية سيعود إلى درجة الكردان والراست، إنه يمّهد لنغمة الأصبعين ثمّ بعد صمت: انتبه ها هو يعود من حيث انطلق ليقفل براست الذيل.
3ــ شواهد قبور
أخذ الأخيل بضع شواهد، ونضّدها فوق رخامة الصّهريج. فإذا هي فسيفساء مستطيلة، من زخارف نباتيّة ونجميّة، تتسامق فيها أغصان وفروع متموّجة ملتفّـة، وتجري خطوط ومنحنيات، تخرج منها حنايا وأقواس لا تعرف بدايتها من نهايتها. وكان نصّ البسملة هو كلّ ما استطعت أن أتميّزه وسط تلك الغابة من الحروف التي تستطيل نهاياتها وتستدقّ وكأنّها بقايا حروف أو تزيّدات زخرفيّة تملأ الفراغ في كلّ رخامة.
كان الأخيل يتقهقر مرّة، ويتقدّم مرّة، بخطى متقاصرة، وبدا كالذّاهل وهو يشرح معمّيات تلك الفسيفساء، فإذا صوته يحتدّ ثمّ يلين من دون أن ينتهي إلى قرار ثابت، وكأنّه يردّد هجسا في نفسه: «أنظر إلى الألف، يبدأ بنقطة في عرض الحرف، ثمّ ينقص عرضه وينقص حتّى يرهف فإذا هو مدبّب، أحفر نقطة في الأعلى وشظيّة في الأسفل، هو خطّ مستقيم. سبع نقاط من نقاط قلم الثّلث، الآن أنظر إلى الرّاء والزّاي، أنظر إليهما منفردين هنا (وأشار بإصبعه) ألا ترى كيف يستلقي كلّ منهما ويطلّ إلى اليمين برأس صغير؟ والآن إلى السّين، هي حرفان، مسنّة في وسط الكلمة، فم أدرد في فاتحتها، ورأسها صغير مقوّس إلى الأسفل، أرسمها هكذا (وأشار بيده في الفضاء) جرّة بوجه القلم الكاف ألف، ولكنّه ألف مائل إلى اليسار، الهاء حلقتان متراكبتان. أنظر إلى السّفلى، إنّها بيضويّة. العليا أكبر قليلا. مدبّبة كما ترى. أمّا إذا أقفلت بها الكلمة فأنا أرفعها ثمّ أتحدّر بها، فكأنّها راء ترتفع نهايته قليلا» ثمّ قرقر في الضّحك وقال: «أنا هنا أكمل عمل عزرائيل! أختم عليه. الفرق بيننا أنّه لا يضحك أبدا، وأنا أضحك أبدا، هو في السّماء الرّابعة وأنا في الأرض، يجلس هو على كرسيّ تحت العرش (وجلس الأخيل على الكرسيّ الحجريّ الطّويل)، عن يمينه لوح، وعن شماله شجرة عظيمة ما عليها من ورقة، إلاّ كتب فيها اسم شخص، حتّى المرحومة كلبتي «كسبة»، فإذا قرب أجلك يا حرشوف» قاطعته ضاحكا: «أجلك أنت» قال: «أنا لا أموت يا حرشوف، أنا أعيش في الدّنيا مجازفة، لا أحد يعرف تاريخ مولدي، حتّى أنا، دعني أكمل، إذا قرب أجلك يا حرشوف، اصفرّت ورقتك واسودّ اسمك في اللّوح، فيعلم عزرائيل أنّك مقبوض، فينظر إليك هكذا (وأخذ الأخيل يتفرّس فيّ بعينيه المبيضّتين، وكأنّه يستجمع فيهما كلّ ما تبقّى له من النّور) نظرة يرتعد منها جسدك يا حرشوف، وينخلع قلبك فتقع في الفراش. عندها يعالج روحك (ونهض الأخيل وأخذ يحرّك يديه، وكأنّه يكشط جلدا ويجرّد لحما) ينزعها من العروق والعصب واللّحم والدّم، ويقبضها من رؤوس الأظافر، حتّى يصل إلى الرّكبتين، ثمّ يجذبها إلى الحلقوم، فتقع يا حرشوف في الغرغرة، عندها يتناول روحك، ويسلّها هكذا (وعقد الأخيل سبّابته بإبهامه) كما تسلّ الشّعرة من العجين، فإذا انفصلت روحك عن جسدك الهزيل، صرت هكذا يا حرشوف (وجمدت عيناه وشخصتا كأنّهما تتبعان شيئا يبعد، ثمّ عاد إلى هيئته) وأجيء أنا عمّك الأخيل فأعالج اسمك على رخامة، وأكتب: «ها هنا يرقد حرشوف المسكين الذي لم ير من الدّنيا إلاّ الكتب».
ثمّ أدخل الأخيل يده في جيب سرواله، وأخرج قطعة نقديّة صغيرة بيضاء، أخذ يديرها في الهواء، ويقول:» هكذا الدّنيا ياحرشوف «دورو» (عملة تونسيّة قديمة) يقلّبه عزرائيل في يده كيفما يشاء، ظهرا لبطن
4ـ بالأسود والأبيض/ باب الحديد
في قاعة سينما باريس في القيروان (تحوّلت منذ الستينيات إلى محكمة مثل معالم أخرى هُدّمت) أشاهد مع الأخيل، وأنا في عزّ الطّفولة، أوّل فيلم في حياتي؛ في فضاء معتم. ذكرى مثل حلم ملوّن نراه في الرّمق الأخير من النّوم، ويمحوه النّهار، ولكنّ أثره لا ينقطع طوال اليوم.
إنّ ذاكرة السّينما أشبه بـ»مونتاج» من أحلام خاطفة متلاصقة الأطراف، تتساند رأسا لرأس، مثل الوعول التي تربض جنبا إلى جنب، عند منحدر صخريّ، أو طرف غابة، أو مثل سرب الإوزّ البرّي وقد انقسم إلى سربـين يطيران وراء الإوزّة القائدة (أعني الفيلم الأوّل في حياة أيّ منّا)! وربّما لمح السّرب نسرا يمرق من صدوع الجبال، فإذا الإوزّات تحوم وتهبط، وهي تشرخ الفضاء بصأصأتها وصياحها المدوّي، على أنّ الأفلام التي كنّا نشاهدها في طفولتنا البعيدة، كان أكثرها صامتا، وكان بالأسود والأبيض. وكنّا حيوانات صغيرة أليفة نقعي في قاعة مظلمة نتطلّع إلى أفلام هي مزيج من دهشة وسحر، بعيون لا ترى إلاّ الأسود والأبيض مثل عيون كثير من الحيوانات. أفلام كانت بعيدة عن واقعنا.. وستارن.. وفروسيّة.. ونساء هنديّات يشتملن بملاحف مثل نساء الإغريق، أو مثل البدويّات التونسيّات ..وأفلام أخرى بوليسيّة.. مغامرات أدّي كونستنتين (وكنّا نسمّيه الهادي القسنطيني).. حتّى الأفلام المصريّة لم يكن ثمّة ما يربطها بواقعنا أو بحياتنا. وربّما ما لقت فينا غرائز وشهوات، وأيقظت أهواء دفينة، ماعدا «باب الحديد». ألا يزال مغلقا؟ أم تراه فتح في غفلة منّا؟ ولكن أين المفتاح؟ فالأبواب مثل الحياة صنعت لتفتح وتغلق، أو مثل الموت الذي يفتح أبوابا ولا يغلقها.. ويغلق أبوابا ولا يفتحها. على أنّي أطرق بابك يا عزيزي الأخيل، وأنا داخل البيت بيتك، أتسمعني؟ أم تراني طرقت الباب الخطأ ؟
٭ كاتب تونسي
منصف الوهايبي
تحية للكاتب. ولصديقه صبحي. نعم تقريبا يا سي المنصف ما جاء في كتابتك عاشته معظم الطفولة التونسية في ستينيات القرن الماضي في جل المدن التونسية بتفاوت في بعض مدنها على غرار القيروان وتونس وبلاد الجريد ليست ببعيدة عنهما من ناحية مكانة الأضرحة من ناحية زيارتها فهذه زيارة البرقوق، المشمش، وزيارة الكرموس، التين، والثلمود أو الدخلة لأبي علي السني بنفطة يوم كل ثان أيام عيد الإضحى حيث تقام الحضرة. ” صفي يا اللا ” صيحة تنبه عارض أفلام في توزر إسمه ” اللا ” قام بعرض الفلم من أخره لخطإ وقع في بكرات الفيلم. ومن الأفلام حينها ” الويستيرن ” وغيرها غير أن الأفلام المصرية حينها لا تستصاغ لدى المتفرج التونسي حينها.
Ustad Muncif
Shukran – great joyful text
[email protected]
PS. could you send med yr post box
to send you a book of mine