الرقص كما يعرفه الباحثون هو حركات جسدية يؤديها أشخاص بمصاحبة نغمات أو إيقاعات موسيقية لأسباب مختلفة مثل، الحزن أو الفرح أو محاكاة الصيد أو الحرب.
وقد يرتدي الراقصون أزياء خاصة تناسب أجواء رقصهم، ويقسم الرقص بناء على من يؤديه إلى رقص فردي ورقص جماعي، أو بحسب غاياته أو مناسباته إلى رقص أفراح أو أحزان…الخ، ويشير بعض الباحثين إلى أن الرقص لغة عالمية نعبر عنها بحركات جسدية، إلا أن هذا الطرح لا يصمد امام الانتقاد القائل إن رمزية الرقصات ومحمولاتها الثقافية تختلف من مجتمع لآخر، حتى إن بدت بعض الرقصات متشابهة، لأن رموز كل مجتمع تختلف في معانيها وجذورها التاريخية عن المجتمع الآخر.
لم يكن الرقص من الأنساق الثقافية التي انتبه لها علماء الانثروبولوجيا في بداية نشوء هذا العلم في القرن التاسع عشر، لأن جهودهم كانت منصبة على دراسة انساق مجتمعية اخرى اعتبروها اكثر اهمية في فهم المجتمعات المدروسة مثل النسق الديني والنسق الاقتصادي والنسق القرابي، ورغم الصلات الوثيقة بين الرقص والطقوس الدينية، إلا أننا نادرا ما نجد إشارات مهمة تصف الرقص في المجتمعات البدائية في الدراسات الانثروبولوجية الرائدة، حتى ظهر عالم الانثروبولوجيا فرانز بواس، الذي درس في القرن التاسع عشر قبائل السكان الأصليين في أمريكا الشمالية، وركز دراسته على الأنساق الثقافية، واعتبر ابو الانثروبولوجيا الثقافية، واستاذ كرسيها الأهم في الجامعات الأمريكية، ويعد أول من قام بتحليل الرقص كظاهرة ثقافية مستقلة، وذهب إلى أن الرقص مثله مثل الفنون التشكيلية يجب أن يدرس من خلال مفاهيم تختلف من ثقافة إلى أخرى وليس كجزء من ثقافة عالمية للاتصال الفني، وهي النظرة التي كانت سائدة عند دارسي الفن الغربي حينذاك، كما يرى بواس أن لكل ثقافة تشكيلا فريدا يميزها ويبرز هويتها، وأن الرقص جزء من هذه الفرادة.
وتعتبر الباحثة الامريكية غيرترود كيراث، من أهم علماء الانثروبولوجيا في هذا المجال، فقد اعتبرت مؤسسة لما عرف بانثروبولوجيا الرقص، حيث اقترحت تكنيكا علميا عام 1960 لتسجيل أشكال الرقص في ميدان الدراسة.
يؤكد الكثير من الباحثين على أن للرقص جذورا تمتد عميقا في التاريخ الانساني تنهل من ميثولوجيات الشعوب، ويشيرون إلى الرسومات الموجودة في اللقى الأثرية في الحضارات القديمة، تظهر نساء ورجالا وهم في حالة تمايل أو اداء لحركات مرمزة، كما تصاحب هذه اللوحات كتابات أو تراتيل طقسية تشير إلى وجود نوع من الطقوس الدينية تمارس فيها النساء حركات راقصة، يصاحبهن عادة رجال يعزفون على آلات موسيقية كالطبل والصنوج والمزامير والقيثارة، وقد أشار عدد من الدراسات التاريخية لما عرف بالرقص الديني أو التعبدي في المعابد البابلية والآشورية والمصرية، الذي كانت تختص به نساء مكرسات لخدمة الآلهة في المعبد، وحاول عدد من الباحثين المعاصرين أن يربطوا بين طقوس الرقص الديني الذي كان يتم في المعابد وما تبقى من حركات راقصة معاصرة، لكن المشكلة تكمن في قلة الأدلة العلمية على نوع من الربط كهذا، ويبقى الأمر على شكل قرائن أو تكهنات قد لا تصمد أمام المحك العلمي، فمثلا ربط باحثون بين رقصات كانت تؤديها خادمات المعابد السومرية مع رقص الغجر المعروف في العراق اليوم، بناء على حركة تدوير الشعر الطويل المنسدل على شكل حركة دائرية، وقد بنى على هذا الاساس الاثاري العراقي د. فوزي رشيد أطروحته القائلة، إن للغجر أصلا سومريا، وهو تجن علمي يحتاج إلى توكيدات كثيرة ما تزال غير متوفرة.
كذلك يجب أن نعلم أن كل الشعوب تمتلك رقصاتها القائمة على معطيات ايكولوجيا المحيط الذي تعيش فيه أو أنساق حياتها الاقتصادية، من زراعة أو رعي أو غزو لتعكسها في رقصاتها، وحتى الشعوب التي لم تكن تعرف ذلك أو تحتفي به كانت تستورد هذه الانساق، فيذكر المؤرخ العراقي د. جواد علي في موسوعته «المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام «؛ أن هناك نوعا من الرقص يقال له (الدرقلة)، قال محمد بن إسحاق: قدم فتية من الحبْشة على الرسول (ص) يدرقلون، أي يرقصون، وقيل: الدرقلة: لعبة للعجم معربة، وهي من الحبشة على بعض آراء علماء اللغة، ونطقت بـ (الدركلة) كذلك، وذكروا أن الرسول (ص) مرّ على أصحاب الدركلة فقال: جدّوا يا بني أرفدة حتى يعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة. وقد عرف الحبش بحبهّم للرقص. وكان أهل مكة وغيرهم من أهل الحجاز إذا أرادوا الاحتفال بعرس أو ختان أو أي مناسبة مفرحة أخرى أحضروا الحبش للرقص والغناء على طريقتهم الخاصة. ولأن الافارقة معروفون بأنهم بارعون في الرقص فقد كان لهم حضور بارز في افراح العراقيين، ويجب الإشارة إلى أن هنالك جالية افريقية تعيش في جنوب العراق هم من بقايا العبيد المجلوبين تاريخيا إلى مدينة البصرة وما جاورها، ورقصهم مميز على ايقاعات هي مزيج من نمط ايقاعات البحارة بتأثيرات البحر الذي تطل عليه البصرة وايقاعات الصحراء المجاورة للبصرة المعروفة بـ»الحدي» وهو نوع من الغناء الصحراوي يحاكي إيقاع مسير قافلة الإبل، وربما كانت أبرز رقصاتهم (الهيوة) وهي تشبه في حركة راقصيها وايقاعاتها رقصة (السامري) الموجودة في الكويت وبعض دول الخليج، إلا أن الفرق يفرض نفسه هنا، إذ أن (السامري) الخليجي رقصة مجاميع نساء فقط، بينما (الهيوة) رقصة مختلطة.
ومهما تشابه شكل الرقص بين مجتمع وآخر فلابد للعين المدققة أن تجد الاختلافات بين هذه المجموعة الاجتماعية وتلك، وأوضح مثال على ذلك هو رقصة (الدبكة) المنتشرة في الكثير من المجتمعات، وهي رقصة جماعية تتم عبر تشكيل سلسلة بشرية تتماسك بالأيدي وتتحرك على شكل دوائر على إيقاع الطبل والمزمار مع تحريك أجزاء الجسم، لكننا نجدها في شمال العراق مثلا تمارس من قبل الاكراد والاشوريين بطريقة تظهر فيها عنف ضربات الاقدام على الارض الجبلية الصلبة، كما أن حيوية الفلاح الجبلي تظهر في حركة الاكتاف القوية إلى الامام والى الخلف، وتتكون سلسلة الراقصين من النساء والرجال في دلالة واضحة على المكانة الممنوحة للمرأة في المجتمع الريفي الجبلي، بينما تجد في (دبكة) الجنوب والمنطقة الغربية في العراق المعروفة بـ (الجوبي) ضربات الاقدام اقل حدة والدوران في دوائر اوسع وحركات الاكتاف تكاد تكون غير محسوسة في دلالة على انبساط الارض وسهولتها ولين تعامل الفلاح أو البدوي معها، كما تخلو سلسلة الراقصين من النساء، في اشارة إلى تراجع مكانة المرأة في هذه المجتمعات عن مكانتها في الشمال، كذلك يمكننا أن نتعرف على تنوعات مجتمعات بلاد الشام من دراسة (الدبكة )في كل منطقة وملاحظة التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية على نمط الرقص، كما يمكننا أن نلاحظ (الدبكة) الجبلية الامازيغية المعروفة بـ (احداس) في المغرب العربي ومدى تشابهها مع الدبكة الكردية والاشورية، والفارق هو استخدام الموسيقى القائمة على الدفوف في نمط يذكرنا بالموسيقى المتحدرة من الاندلس، بعد أن اختلطت بموسيقى الصحراء في المغرب العربي، ولكننا نشاهد سلاسل الراقصين وقد انقسمت إلى صفوف متقابلة، من الرجال وصفوف من النساء، في دلالة على مكانة متوسطة للمرأة فهي موجودة في الرقصة لكن سلاسلها غير مختلطة الجنس. ولا يمكن أن نتحدث عن انثروبولوجيا الرقص دون أن نمر على (الفلامنكو) الرقصة الاسبانية الشهيرة التي حاول عدد من الباحثين ربطها بأصول عربية اندلسية، بدءا بالاسم مرورا بالمضامين والحركة والايقاعات، وقد ربطها الباحثون بالفلاحين المورسيكيين تحديدا، وهم بقايا العرب في الاندلس الذين فرضت عليهم محاكم التفتيش الاسبانية التنصر وسلبت اراضيهم، فولدت رقصة (الفلامنكو) باداء مغنيها الحزين وضربات ارجل الراقصين العنيفة، التي تريد أن تخرج الغضب المخزون في نفوسهم والتصفيق العنيف المصاحب من قبل المشاهدين والمتسق مع ايقاع الرقص.
وكما اشرنا إلى أن أول ما لفت انظار الانثروبولوجيين إلى رقصات الشعوب هو اعتبارها نوعا من الطقوس المتزامنة مع الشعائر الدينية، يمكننا أن نرى استمرارية هذا الامر في عالمنا المعاصر، فما تزال رقصة الدوران الصوفي طقس مهم في الطريقة الصوفية المولوية، التي تعود إلى القطب الصوفي مولانا جلال الدين الرومي، الذي عاش في مدينة قونية جنوب تركيا، كما يمكننا أن نلاحظ التغيرات التي طرأت على هذه الرقصة عند انتقالها إلى مصر مع الطريقة المولوية التي انتشرت هناك لتتحول إلى رقصة (التنورة الملونة) شبه الفلكلورية رغم بقاء المدائح والتواشيح الصوفية المصاحبة للراقصين.
اما اذا اردنا أن نتكلم عن رقصات الحرب فيجب أن نذكر رقصة (الهاكا) النيوزيلندية، وهي رقصة حرب بامتياز، ويمكننا ملاحظة ذلك من تحليل حركات الراقصين، حيث الوجوه الغاضبة والنفخ وإخراج اللسان ثم الحركات العنيفة لليدين والضربات المصاحبة على الصدر والأرجل المفتوحة في وقفة تشبه تهيؤ مصارعي السومو للنزال، مع وجود قائد يحمل عصا يحركها كأنها رمح سيستعمل للقتال أو الصيد ويصاحبها نوع من التراتيل أو الأشعار بلغة السكان الاصليين، وقد اصبحت هذه الرقصة من الفلكلور الذي يحتفي به النيوزيلنديون ويمارسونه في احتفالاتهم الحزينة كتشييع شخص مهم، أو أفراحهم كالأعراس أو حتى يقوموا بتقديمها عند حلول ضيف مهم كزيارات الرؤساء.
من كل ذلك يمكننا القول إن الرقص عالم مازال بكرا وأرضا مفتوحة للعديد من الدراسات في الانثروبولوجيا الثقافية، لابد أن تنتبه له الاكاديميات ومراكز البحث ليغني فهمنا لتنوعنا الثقافي.
٭ كاتب عراقي
صادق الطائي