تقول النكتة، أن شابا جزائريا تزوج من ألمانية جميلة. اكتشف في أول رمضان معها، إنها ترفض أن تصوم. طلقها، لكنه ندم بسرعة، فذهب للشيخ يرجوه، أن يجد له حلا لمأزقه هذا. الشيخ عندما رأى الألمانية الجميلة، كان رده، أرجعها يا بني، لا تخف، رمضان يعود كل سنة ويمكن أن تغير رأيها وتصومه السنة المقبلة، لكن هذه الألمانية الجميلة قد لا تعود مرة أخرى، إذا خرجت من البيت.
تطبيقا لهذه الحكمة، قررت أن أتناول هذا الأسبوع عن رمضان الجزائري، الذي يزورنا كل سنة مرة وليس عن قضايا العرب، مهما بدت جادة وخطيرة، فهي يمكن أن تنتظر، لأنها تعود كل أسبوع، بل كل يوم، للأسف الشديد.
رمضان الجزائري الذي «يتحنبل» الجزائريون في صيامه، بطريقة لا يعرفها أي بلد عربي آخر، فالجزائري يمكن أن يقبل منك أي شيء، إلا أن تشهر عدم صيامك أمامه، فهو يصر على الصيام وهو على سفر وهو مريض يحتضر على فراش الموت وهو كبير في السن لحد الخرف وهو صغير قبل البلوغ. الجزائري الذي يتعجب، عندما يسمع، أن هناك من العرب المسلمين، من لا يصوم رمضان، كما قيل له، دون أن يصدق ذلك دائما. الجزائري الذي يتساهل في المقابل مع الصلاة والزكاة وعبادات أخرى، ذات بعد اجتماعي واضح، لكنه لن يقبل أي عذر إذا تعلق الأمر بالصيام الذي يفترض فيه أنه عبادة فردية.
هذه الظاهرة التي لها علاقة بالاجتماعي والسياسي أكثر من الديني. فلابد من البحث عن هذه النظرة التي يمتلكها الجزائري للصيام، في حنايا التاريخ السياسي للبلد، وما ميزه من خصوصيات وليس في تدينه، الذي لا يختلف عما هو معروف من تدين في البلاد المغاربية، السنية، المالكية في غالبيتها. فالجزائر، إذا استثنيا الحالة الفلسطينية، كانت البلد الوحيد في المنطقة العربية الذي عرف استعمارا استيطانيا طويلا، لم يعد يتحكم فيه الإنسان في حياته بكل تفاصيلها، بما فيها وقته الاجتماعي والديني الذي تمت السيطرة عليه من قبل الحالة الاستعمارية، الأكثر بروزا في المدينة، عكس الريف وفي الشمال على خلاف الجنوب، ما يفسر كيف تكون أشكال التدين مختلفة في الجزائر، من منطقة جغرافية إلى أخرى، لنكون أمام نوع من الجغرافية الدينية، حتى عندما يتعلق الأمر بالعبادات المفروضة على كل مسلم ومسلمة، كالصلاة على سبيل المثال.
حالة استعمارية استيطانية، عاشتها أكثر من أربعة أجيال من الجزائريين، حولت صيام رمضان إلى مقاومة فعلية، من قبل هذا المجتمع المغلوب على أمره، يعيشها شهرا من كل سنة، بكل الشرعية الدينية التي تمتلكها هذه العبادة، وقدرتها على التجنيد. يحاول من خلالها الجزائري الانفصال وإعلان طلاقه عن الحالة الاستعمارية، في جزئيات حياته اليومية التي لم يعد يتحكم فيها لوقت طويل. يأكل في وقت محدد المأكولات الخاصة به، ينام في الوقت الذي يختاره، يسهر للصبح، يعود إلى لباسه التقليدي بشكل استفزازي لمحيطه الاستعماري، إلى آخر الانقلاب الذي يحدثه رمضان في حياة الجزائري. انقلاب يصل إلى حد توقف المدمنين على شرب الخمور، بداية من أول رمضان لغاية الإعلان عن يوم العيد، يعودون بعدها لنمط حياتهم، بعد أن يكونوا قد تأكدوا أن رمضان الجزائري قد أدى الوظيفة الاجتماعية والسياسية المطلوبة منه، في انتظار سنة جديدة ومعركة أخرى لا يريدون أن يبقوا بعيدين عنها.
من هنا نفهم كيف يتحول الصيام إلى عبادة جماعية، هدفها الإعلان عن وجود مجتمع آخر مختلف، يريد أن يقول إنني ما زالت موجودا، في مواجهة الحالة الاستعمارية، قد لا تهم فيه القناعات الدينية الفردية، بقدر ما تهم وظيفته الاجتماعية والسياسية لهذه العبادة دون غيرها. وظيفة يشارك فيها الجميع ويصر على التشبث بها وتطبيقها بصرامة على الكل. وويل لمن لا يحترم هذه الأدوار الاجتماعية المناطة برمضان الجزائري، الذي يتكفل الأطفال بتطبيق حدود الخروج عنه، عند الاقتضاء، مثل الأسرة والجيران ومحيط العمل، في غياب الدولة الوطنية ومؤسساتها الزجرية في تلك الفترة.
الدولة الوطنية التي ظهرت بعد الاستقلال، استمرت في تطبيق المنطق نفسه، الذي تتم إعادة إنتاج موسع له بطريقة مشوهة، دون أن تعي أن الوظائف التي كان يقوم بها صيام رمضان، ضمن الحالة الاستعمارية، لم يعد هناك ما يبررها بعد الاستقلال، فلم يعد مطلوبا منا أن نصوم للآخر، ونحن ننتج هذا التدين الشكلي والاجتماعي، لنقول له إننا مختلفون عنه ونتحداه بصومنا الجماعي هذا، الذي يأخذ منحـــــى المظاهرة الجمــــــاعية التي ترفض احترام ضعف المريض والمسافر وغير المسلم وغير المقتنع. وأنه يجب علينا العودة إلى الجانب الفردي والروحاني لهذه العبادة، وليس لطابعها الاجتماعي القهري الذي تظهر عيوبه بشكل لافت للنظر، في يوميات الجزائريين على شكل شجارات بين الصائمين وزيادة في حوادث الطرقات ونزعة استهلاكية استفزازية للفقير والمسكين وقلة عمل وتكاسل، بل توقف شبه كلي للحياة، لمدة شهر كامل، لأن المجتمع هو الذي يصوم وليس الفرد.
كاتب جزائري
ناصر جابي
شكراً لهذا المقال المتمييز في المحتوى والمضمون والشكل.إنك كاتب قريب من الناس إلى درجة التفاعل الحساس.وأضيف لحضرتك أنّ التعلّق
بالشعائرالدينية في رمضان وغيررمضان ؛ خاصة تحت الاحتلال الأجنبيّ والفجيعة المحلية ؛ هوتعويض عن الزمن المحدود إلى الزمن المفتوح
وهوالزمن السّماويّ البعيد عن التلوّث الأرضيّ.والإنسان بطبعه يجد في السّماء النافذة التي لا يستطيع أحد من غلقها ؛ ولوبسطت سيطرة على الأرض بغطرسة القوّة…لأن السّماء المقابل للربّ الأقوى : الله.وهوربّ العالمين جميعاً ؛ لا ربّاً لفئة دون آخرين.ومن هنا العبادات في الإسلام
هي قرينة الحريّة الحقيقية ؛ أي حرية الحضارة للفرد وللمجتمع ؛ بشرطين : أنْ تكون خالصة لله وحده ؛ وهذه قضية ذاتية في الفرد ؛ وأنْ تكون خالصة من التسيس ؛ وهذه قضية موضوعية في المجتمع.عندها تكون حرية في الأرض وسعة واسعة في السّماء معاً.مع التقدير.