مع أن رمضان ليس شهرا للأطفال، مع ذلك لو راجع كل منا ذكرياته مع هذا الشهر الفضيل فسيجد أنه سيعود إلى طفولته وهو يتذكر طقوس الشهر.
في العراق كانت طفولتي التي كنت أراقب فيها أمي وهي تعد الطعام للإفطار، وكان الجميع ينتظر لحظة الأذان ليشرب الماء ويرتوي بعد عطش طويل، وكنا أنا وأخوتي نتشاكل مع والدينا لأننا نريد الصيام، وهم لا يقبلون من مبدأ ان أجسادنا الصغيرة لن تتحمل الجوع والعطش.
رمضان في العراق بعد العبادات، اشتهر بلعبة «المحيبس» وهذه اللعبة من العادات التي دأب العراقيون في ليالي رمضان على لعبها وتسلية أوقاتهم بها. وتضم لعبة «المحيبس» فريقين من الرجال قد يصل الفريق الواحد إلى مئة شخص، يقابله العدد نفسه من الفريق الآخر، ولكل فريق قائد يقوم بإخفاء خاتم بيد أحد أعضاء فريقه، فيمد جميع أفراد الفريق أيديهم مقبوضة، ليحزر أحد أعضاء الفريق الآخر في أي يد يوجد الخاتم، فإن نجح في ذلك أخذ الخاتم لفريقه ليقوموا بتكرار اللعبة.
تعتمد اللعبة كثيرا على قراءة ملامح الوجه لمعرفة من يخفي الخاتم في قبضته، وتدور اللعبة بما يشبه الحرب النفسية، خصوصاً عندما تتقهقر أعصاب حامل الخاتم ويتغير لونه ليصبح صيداً سهلاً، بينما يتسلى
اللاعبون بتناول المرطبات والحلويات الرمضانية.
رمضان هذه الأيام، لم يعد رمضان زمان، فبينما كانت الأفواه تقفل أمام الثلاجات الممتلئة على آخرها بأنواع الأطعمة والمشروبات، وبينما كان العيد يأتي محملا بالملابس والألعاب للأطفال والهدايا والمفرقعات، صار يأتي صعبا ونحيلا، وبينما كان أهل الشام يطلقون لقب «متبغدد» عمن يصرف الكثير من المال، أو الذي يشتري الكثير، أصبح «المتبغدد» فعلا
ماضيا.
في العراق هذه الأيام، كنت أزور المخيمات التي أوت النازحين من مختلف البقاع العراقية، حيث الألم والجوع ورمضان دائم بلا إفطار، أو إفطار بسيط، وقد كان لي أن أساهم في قليل مما يدرأ عن هذا الشعب الجميل الألم، ومن خلال حملة «أهلنا» استطعنا بناء مخيمات، وفي هذه الأيام استطعنا أن نحصل على حصص غذائية عالية الجودة للمخيمات التي تشرف عليها «أهلنا».
أن تلتقي الموجوع، وتلامس ألمه، ليس شيئا سهلا، فأنت تعود من زيارتك محملا بألم خفي في داخلك، يجرح كنصل حاد، فهذا الشعب نالت منه العواصف جميعها، وما أن يستقر له حال حتى ينقلب. وملامسة الألم تنسيك متعة لقاء الأهل والأصدقاء في سهرات رمضان.
ومع كل هذا، شوارع بغداد هذه الأيام ومقاهيها تغص بالساهرين حتى يقترب موعد الإمساك، والمقاهي تغص بأناس يحاولون كسر الألم بالضحك، أو كأنهم يستخدمون الضحك دواء لأوجاعهم في بلد أصبح فيه الدواء باهظ الثمن مثله مثل كل الأشياء الأخرى.
ومع كل هذا الألم، يبقى لرمضان سحره في عالم الكبار والصغار، سواء بسواء، فما زال «المحيبس» يحبس الأنفاس، وهو يحاول اكتشاف مخبأ الخاتم وقبضته، وما زال الأطفال يغنون أغنياتهم وينشدون، وما زال الناس يتجمعون والأقارب يتزاورون وما زالت رائحة المطابخ شهية، وهي تخرج من الفرن أطايب الحلويات الرمضانية.
وعندما نأتي لذكر رمضان لا بدّ أن نتحدث عن الفن الجميل والوجداني المرتبط بالروح، ففي رمضان ووسط الأجواء الروحانية ظهر فن غنائي جميل يسمى المربعات البغدادية يؤدى مع الإيقاعات فقط ويلبس فيه المغني والفرقة زيا بغداديا يسمى «الصاية والجراوية» وأثناء لعبة «المحيبس» يقوم المغني وفرقته بتشجيع الفريق الفائز ومدحه وكل ذلك ينطلق بعد
صلاة التراويح ، هناك أيضاً الطرق الغنائية الدينية التي تتواصل في شهر رمضان في بعض التكيات الملحقة بمساجد أو منفصلة وتتميز المنطقة الغربية في العراق عن بغداد وعن جنوب العراق بأساليب أداء وإيقاعات ومقامات ويطلق على تلك الطرق عدة مسميات منها، الذكر والإنشاد الديني والصوفي، أو تسمى على إمام الطريقة كما الحضرة الگيلانية أو
النقشبندية وغيرهما، وكذلك تنشط المدائح النبوية حسب مذاهبها المتنوعة.
ومن منطقة إلى أخرى تختلف طريقة غناء الأناشيد الدينية والمدائح، لكنها جميعها ترتبط بالنواحي الإنسانية العميقة في قيمها وروحانيتها.
في رمضان أيضا نرى النساء يرتدين الملابس العراقية التقليدية ومنها ما هو باهظ الأثمان وتحتاج صناعته لأيد ماهرة وبراعة عالية، بالإضافة إلى الذوق في تنسيق الألوان، وتصبح السهرات الرمضانية المصاحبة للسحور ما قبل الإمساك مسرحا فنيا إنسانيا، وصورة عن مجتمع يعيش في الموت لكنه يصنع نافذة ليرى منها الحياة.
في العراق هذه الأيام كنت التقي الدمعة وأستدير برأسي لتتلقفني ابتسامة ثم ضحكة، أشكال كثيرة لتنوع إنساني عميق، كأنه يشير إلى أن هذه الأرض التي ولدت فيها العنقاء تستدير معلنة أن حياة جديدة ستبدأ في كل مرة تقترب فيها من موتها.
وفي العراق هذه الأيام، رأيت رمضاناً آخر، رمضان لم تره عيني منذ زمن طويل مع أنه يتشابه مع «رمضانات» العالم العربي، الذي كنت أزوره خلال الشهر نفسه، في ما مرّ من السنوات، رمضان «هناك» حيث العراق الجريح ينهض ليداوي جراحه بانتصارات على أكبر حرب من نوعها ضد الإرهاب ، وبعد كبوة كانت صعبة على شعب قوي، النصر الذي يحققه الجيش العراقي والقوى الأمنية، وكل الذين يعرضون صدورهم للرصاص أعاد الأمل للشارع العراقي، ومن أجل عراق يسع الجميع، عراق تسامح وحب وتنوع. طعم التفاف الشعب حول بعضه يشبه قالبا من الحلوى وأصابع من «الكليجة» اللذيذة التي تخرج من أفران الأمهات لتتلقفها أصابع أطفالهن.
٭ موسيقي عراقي
نصير شمه
لا أعرف عن أي عراق تتكلم؟