العبادات حافلة بالعلامات، بل إنّ أغلب العبادات تسخير مخصوص للعلامات لتحمل دلالات مقدّسة. في رمضان شهر الصيام توجد صور كثيرة تُحمّل بدلالة مركزية عند المؤمن الطّرازيّ: الاستعداد للحرمان من أجل التعويض عنه بشكل أعظم.
تفترن الصّور الرمضانيّة بالنور ولنا أن نرى ذلك في إشهار البرامج أو الموادّ الاستهلاكيّة، إذ يقترن الشهر في المدينة بتكثيف الإنارة في المساجد وفي الأماكن العامّة؛ وهذا الاحتفاء بالنّور نابع من الاحتفاء بالليل، فهو سيضحى زمن العبادات المطوّلة وزمن النّشاط والمُتع واللذائذ المعوّضة عن حرمان يوم من الصوم. في الليل يُقضى الصوم، وتكتسب الحرية مفهومها الحقيقي، فالنفس ستتحرّر، بعد قيد الصوم الذي حدّ لها أغلب متعها، ومنها متعة البصر، الذي غضّ منه طيلة اليوم بناء على مبدأ الأولى لك والثانية عليك.
يبدأ الإفطار بصورة وبصوت يستخدمان علامات: الصورة أن يضيء نور الصومعة في صلاة المغرب، والصوت ليس في أن يؤذّن المؤذّن لهذه الصلاة التي تصبح بدورها إيذانا بالإفطار، بل يكون بصوت مميّز شبيه بطلق البارود نسمّيه نحن في تونس صوت المدفع. لا يُعلمُ متى كان أوّل استعمال لصوت البارود علامة على الإفطار، لكن لا شكّ أنّه كان في زمن اقترن فيه الصّيام بالحرب، فكان المدفع علامة على الإفطار. المدافع لا تطلق أصواتها للقتل، بل أيضا للفرح ومازالت الشماريخ علامة دالة على الأفراح. لكنّ الصوم ليس بعيدا عن معنى الحرب، هو رمزيّا حربٌ ضدّ الجشع وغلبة الغرائز، هو حرب لا يخوض غمارها إلا الأقوياء الأشدّاء، ويمنح الضعفاء رخصا بالإفطار.
الصوم كالحرب فيه طبول ومدافع وفيه جبابرة أبطال وفيه مسرّحون غير قادرين على شدّتها في الحرب، كما في الصوم تبلى الأجساد قتالا وتدفعها إلى قتالها أرواح مستبسلة. بعض الصائمين قد يخاطرون فيصلون إلى مشارف الموت ولكنهم يرفضون أن يفطروا لا لأنّها فريضة كبرى فقط، بل لأنّ العجز عن أدائها هو خسارة حرب؛ خسران الحرب ههنا ليس خسرانا لحرب ضدّ الغريزة، بل هو إعلان عن خسارة لجسد أنهكه الزمن واعتركته الأيام. الصوم كالحرب مشهد مرئيّ ساحته الجسد.
الجسد في الصيام صورة مفيدة، يصبح الشّحوب أو النّحول علامة بصريّة غير دالة على المرض، بل على صدق العبادة وتشفّ صورة الجسد عكسا عن معدن الروح: السقم شفاء الروح والصحة سقمها. تنخرط الصورة وعلاماتها ههنا في التأويل الصوفي: بعض الصيام حربٌ على الجسد بنزعة صوفيّة، وإن كان أغلب الناس لا يعلمون.
الصورة السماعيّة التي تقترن في رمضان بالصورة البصريّة لا تتجلى فقط في النور ونار المدفع، ولا في صخب المدينة على ضوء الفوانيس، بل تظهر أيضا في الحكايات التي كانت تؤثث السهرات في عصر ما قبل الشاشات والنت. لكي يسهر الناس كانوا يجتمعون حول الحاكي. كان الحاكي يعتمد الكلمة مدخلا إلى الخيال؛ يجلس إليه الناس ويطعّمون خيالهم بالصور صور لأجمل النّساء، ومشاهد لأعذب قصص الغرام. تعوَّضهم الحكايات عن حرمان النّهار: كم يشعر الرجال بأنّهم محرومون في هذه الحضارة، وتصوغ لهم الحكايات صورا لنساء فاتنات فيشربون في نبعهن النغبة التي تخفف من نار الشوق الأبدية. النسوة الحاكيات لا يحكين عن حرمان هنّ يصنعنه. فجمهورهن من الصبيان وحديثهنّ إليهم محوره أبطال من الأساطير ربّما كانوا حلمهنّ المستتر؛ تكون الصورة ذكوريّة محفّزة على أن يكون الصبية بحجم أبطال الأساطير، لا تشعر النساء الحاكيات بأنّهنّ بهذا التصوير الخيالي يكنّ قد أعلين في سقف الطموح عند الصبية، وبالتالي فتحن أمامهم الباب على الهزيمة، أكثر ممّا فتحنه على الانتصار. سيشعر الصبية بأنّ صيامهم عن الوصول إلى صورة ابن السلطان كان صياما أبديّا.
في المدن يكون وقع الصيام أجمل، لأنّ الصور الليليّة تكون أكثر تنوّعا. لقد حملت سنوات الاستعمار الغربي الأولى عادات جديدة لليل رمضان، كانت الموسيقى فيه صاخبة والرقص نسائيّا وشرب التبغ مباحا. في حفلات القاعات المغلقة لا تكون الموسيقى صوتا شيطانيّا، ولا يكون رقص الراقصات محرجا: هي صور تمتع وتذهب الهمّ في ليل يباحُ فيه إطلاق العنان للشّهوات بعد يوم تكبح فيه الشهوات. الصورة في هذا العالم المغلق لا يغلب عليها النور، هي بين ظلمة وضياء، فيها يمتزج صوت الآلة بحركة الراقصة بدخان النارجيلة وكلّ ذلك بين صلاتين: صلاة العشاء وصلاة الفجر؛ إنها فسحة تشبه الهدنة قبل الرجوع إلى الحرب على رغبات النفس المتخفية وراء الجسد. لا يعني فقهاء الصوم أن يكون ذهن الصائم متعلّقا بصورة الراقصة، أو مشتهيا للحن موسيقى ما، أو حتى لكركرة صوت النارجيلة؛ فالمهمّ ألا يرى الصّائم ما يفطر: ههنا تصبح مقولة الأعمال بالنّيّات مقولة المقولات.
في عصر الصّورة السينمائيّة لعبت التلفزيونات العربية على الغرائز المسجونة طيلة النّهار بالإشهار أو بالدراما أو بالمنوّعات. الإشهار يكثر فيه ما يسيل لعاب الصّائم من مأكولات ومشروبات. المُشهَر له يغرق في تفاصيل المنتج فيطفئ بالصورة لهب عطشه ويقتل شيئا من جوع يضني، ويتطلّع بكلّ أمل لمدفع الإفطار. المنتج الغذائي وهو في الغالب من المعجّنات لا يحرك في الأيّام العاديّة ثبيرا؛ لكنّ المشاهد يراه باعتبار ما سيكون عند الطبخ، هو يكمل مشهد الطبخ في ذهنه وتفوح رائحة الطعام ويسيل اللعاب حقيقة. الصور التي تسيل اللعاب صور قاصرة لأنّ لذّتها بنْت وقتها. يصبح الإشهار مادّة مقايضة يلعب على الضعف البشري والنفسي ولا يلعب على القوة الإعلانية التصورية. هذا التصوّر لا يصنع إشهاريّة راقية، بل يجذب إلى الخلف ويدلّ على عقليّة ناقصة لدى من أنتجه ترى المتلقّي شخصا ساذجا يمكن أن تحرّكه بأدنى الملابسة والحقّ أنّه نائم بنصف عين.
في الأعمال الدّرامية تكثر في شهر الصيام قصص الحبّ والغرام ومشاهد العري الدافعة إلى تحريك العاطفة العطشى؛ وخلف هذه المشاهد تكمن فلسفة التعويض. يصبح الجسد الأنثوي والذكوري كلاهما محور العمل الفنّي قبل أن تكون الفكرة هي المحرّك. هذا هو فنّ الصورة التي مدارها الممثّل بما هو نحت فيزيائي وليس الممثّل بما هو روح فكريّة. على الجسد العاري تنتحر الشهوات المكبوتة وهي كثيرة ويصبح جسد الممثل أو الممثلة هو القصة الأصلية. الصورة في هذا السياق صورة تقتل الفكرة وتحيي اللذة. وهذا يقال أيضا على القنوات التي تستغلّ خصوص المناسبة الدينية لتحدّثنا عن أنّ الماضي كلّه خيّر وأنّ البشر السّابقين هم الصالحون وأنّه لا صلاح اليوم إلا قليلا. يستقيم الماضي ناصعا كله ويصبح الحاضر امتحانَ المستقبل وتتراءى للمشاهد صور عن حاضره المخالف لمستقبله.
هذه هي صور رمضان التي تصنعها الأنوار والأضواء في ليل كان لباسا فصار في هذا الشهر معاشا. صور محورها الجسد ذاويا من فرط المعاناة نهارا وثائرا على حرمانه ليلا؛ وشهر تحاكي صوره الأرضيّة صور اللذّة والنعيم في الآخرة: هكذا يُحرمُ المؤمن في الآجلة لكي ينعم باللذات في العاجلة.
٭ أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسيّة
توفيق قريرة