رهانات الدبلوماسية الأوروبية

«إذا أريد لدولة أن تسمع صوتها عبر العالم فلا بد لها من عظمة واستقلال وطنيين». هكذا كان يتكلم الجنرال ديغول في سياق أدى به إلى اتخاذ قرار انسحاب فرنسا من مجموعة حلف شمال الأطلسي قبل ان تعود فرنسا إلى الانضمام إلى الحلف بعد ذلك بسنوات طوال، في عهد ساركوزي تحديدا.
تغير المشهد وبات مشروطا على فرنسا، إذا كان لا يزال يراودها طموح عودة نفوذها ووزنها إلى سابق عهدهما، أن تمر عبر «الممر الأوروبي « حتما. وليس من قلة الواقعية ان تحدونا آمال احتلالها في ذلك موقع القاطرة، إلى جانب ألمانيا أو أمامها حتى…لكن طموحا مماثلا لن يتأتى لبلادنا بين ليلة وضحاها وهو البلاد الذي يواجه نفس التحديات التي تواجها باقي «الثماني والعشرين»، وفي غالبها بدرجة متساوية.
من بين هذه التحديات إذن، التحدي الأمني. صحيح، جاءت الأحداث الأخيرة لتذكرنا بالموضوع ومنها أساسا العمل الإرهابي الذي عرفه مطار بروكسل من جهة وأيضا محطة قطارات أنفاق تقع على امتار فقط من كبريات مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وصحيح أيضا أن جاء ليذكرنا بذلك بقوة من سقط مجددا بين قتيل وجريح نتيجة جنون الدماغ المغسول المرضي. لكن تطورات شؤون الساعة لم تكن سوى إفراز منطقي لدقات ناقوس خطر ما انفكت تتتالى وتتواصل منذ عشرات السنين. ولو أرجع أحد الخلل الأمني الاتحادي إلى نشأة الاتحاد نفسه لما كان مع الأسف بعيدا عن الحقيقة…
أول عقبة كأداء تكمن في خلط الصلاحيات، بحيث ليس بالإمكان تحديد بوضوح معالم سياسية أمنية أوروبية يتاح بموجبها لأي دولة عضو في الاتحاد الإمساك برافعات مشتركة المواصفات، تخضع أساسا لبروتوكول استخباراتي واحد، ولمنظومة قضائية واحدة.
أبرز مثال غياب إلى الآن إمكان تبادل مشترك لتفاصيل الركاب بين الدول أعضاء الاتحاد. فنظام تسجيل الركاب المعروف بال PNR مثلا لا يزال متعثرا منذ أن تداولت فكرة تأسيسه سنة 2011. فلا يمكن، بين دولة اوروبية وأخرى، تبادل معلومات في منتهى الأهمية من قبيل من يسافر على متن أي طائرة ومتى وبصحبة من. إنها الحلقة المفقودة التي لا تسمح بمراقبة مسار المسافرين منذ بدايته، أي منذ حجز الرحلة إلى غاية الانتهاء منها.
قد يقول قائل « في الأمر نظر»، تحت ذريعة اعتبار القضية مساسا للحريات الشخصية…فحرية التنقل من هذه الحريات، في نهاية المطاف. لكن قائلا آخر قد يردّ إنّ شركات الطيران الأوروبية ملزمة بمد السلطات الأمريكية تفاصيل المسافرين على متنها، وحسب بروتوكول واحد، بغض النظر عن البلد، وذلك منذ احداث 11 / 9 / 2001. فلم سياسة أمنية بمكيالين حسب مناطق العالم ؟
و يترافق غياب التنسيق هذا بغياب صرح قانوني وقضائي يخول المؤسسات الأوروبية المعنية بالشأن الأمني تنفيذ عمليات وتدخلات نوعية. ففي بروكسل مثلا منسق اتحادي لمكافحة الإرهاب، جيل دو كيركوف، لكن لا دائرة استخباراتية اتحادية تعمل إلى جنبه. اما اليوروبول، وهي الوكالة الاتحادية لأفراد قوات الشرطة، فهي لا تعدو كونها مركزا لتبادل الافكار إلى درجة أن كاتب عمود شهير من الصحافة الفرنسية نعتها بالـ «ثينك ثانك».
لم يخط الاتحاد الأوروبي بعد الخطوة الأساسية، لم يخط الخطوة الفيدرالية. وخاصة منها الفيدرالية الأمنية. لا يمكن الاستمرار في اعتبار إمكانية معرفة دول الاتحاد من يستقل طائراتها ومتى امرا بعيد المنال، كما لم يعد بالإمكان التمادي في تصور إمكانية مقارنة تفاصيل الركاب شكلا ومضمونا وموقعا جغرافيا أمرا مستحيلا بل غير مستحب.
كما لم يعد بالإمكان التسليم بغياب منظومة اتحادية موحدة لمراقبة تجارة السلاح. فإلى متى سنستمر في التغاضي عن إمكانية شراء بكل شرعية مثلا قطعة مسدس AK 47 في هذا البلد وقطعة أخرى في ذاك لتقدم بذلك فرص ارتكاب مزيد من الحماقات على طبقة من ذهب ؟
لكن في المقابل، بدأت تتكشف في مجال شنغن على ضوء التهديد الإرهابي وأزمة الهجرة القسرية بعض إرهاصات التقارب الأمني، خاصة بين وكالة الاتحاد لحراسة الحدود ـ فرونتكس ـ وقوات الشرطة المعنية بتحديد هوية الأفراد والأجهزة الاستخباراتية.
لكن طالما ستظل المؤسسات الاتحادية مصابة بداء التشتت وصراع المصالح فإن ذلك سيعرض نجاعتها لهشاشة مستديمة. ولا حاجة لنا في الأخير إلى تذكير أهمها: تجردها تماما من أي قدرة على شن حملات اعتقال عابرة للحدود. وصدق من قال إن قيصر مكافحة الإرهاب الدولي يظل كامنا في تفاصيل معادلة.

٭ باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي

بيار لوي ريمون

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    مقال جدير بالقراءة
    فالخطوات الأمنية الأوروبية بطيئة بالنسبة لما يجري من إرهاب
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول S.S.Abdullah:

    سأتعامل معك وكأنك من المغرب كونك نشأت وترعرعت فيه في بداية حياتك، كما ذكرت في احدى مقالاتك في القدس العربي، فأقول تكلفة مصاريف الدولة العميقة بسبب الحرب على الإرهاب بعد 11/9/2001 أصبحت لا تطاق ولا تكفي كل ضرائب العالم لتغطية مصاريفها، لأنّ الدولة العميقة لا تعترف بشيء اسمه ضمير، فمثلا لو كان يُشك في منتظر الزيدي 0.01% هل كان سيتم السماح له بدخول المؤتمر الصحفي الأخير لممثلي فساد نظام الأمم المتحدة عام 2008 في عقر دار مهد الحضارات الإنسانية، وسبب اعتبارها مهد الحضارات لأنّها دونت أول لغة من خلال اللغة المسمارية (الأسرة)، ودونت أول قانون من خلال مسلة حمورابي (الدولة)، ودوّنت أعظم إنجاز لغوي بتدوين كل ألسنة قراءات القرآن بنص واحد كما نلاحظه في كل نسخ القرآن الكريم كتطبيق عملي للغة التي مثلما تنطقها تكتبها، وأخيرا دوّنت لغة الحذاء على أهل الفساد في النخب الحاكمة في بث حي مباشر على أحدث التقنيات؟!

    الحوار يتطلب التدافع من أجل تمحيص الآراء، ومن يجهل ذلك لا يفهم معنى التنافس، فالمنافسة شيء حميد ما بين الـ أنا والـ آخر، بينما الصراع يعمل على إلغاء الـ آخر من أجل مصالح الـ أنا الربوية، فالإسلام حلّل التجارة أو ثقافة الـ نحن/اللغة/الحكمة وحرّم الربا أو ثقافة الـ أنا/الفكر/الفلسفة، لماذا؟ لأن ثقافة الـ نحن تشمل ثقافة الـ أنا وثقافة الـ آخر للتعايش مع الاختلاف من خلال التبادل التجاري، كما لخصته كامل سورة الكافرون ببلاغة منقطعة النظير، لأن أي دولة، وخصوصا الدولة الإسلامية، يجب أن تمثل ثقافة الـ نحن لجميع مواطنيها، ومن هذه الزاوية أفهم لماذا الرسول صلى الله عليه وسلّم لم يحاسب أي منافق بالخيانة، لماذا مع أنّ الوحي أعطاه قائمة بأسماء جميع المنافقين في الدولة الإسلامية؟! هل بسبب أهمية الضمير؟!

    أنا أختلف مع قول (تبدأ الحرية حين ينتهي الجهل، لأن منح الحرية لجاهل كمنح سلاح لمجنون.)، لماذا؟ لأن من الممارسة العملية الحرية لا تمنح أولا، وثانيا بدون استقلال اقتصادي لن تستطيع أن تكون حرا كمواطن/أسرة/شركة/دولة، ثالثا ما معنى الجهل، فأنا لاحظت على أرض الواقع، من يعرف القراءة والكتابة، لا يعني أنّه سيفهم ما سيقرأه حسب سياقه، أو معنى المعاني التي وردت في قاموس اللغة التي كُتب بها النّص، والسبب هو أنّ الحداثة أو الفكر أو الفلسفة التي صيغت بها مناهج التعليم في النظام البيروقراطي لدولة الحداثة، من خلال مفهوم التأويل بعيدا عن معنى المعاني وهيكل صياغة الكلمة والجمل ومن ثم إعادة البناء هو وسيلتك للإبداع؟! ومن هذه الزاوية أفهم سبب شبح الإفلاس يطارد الدولة/الشركة/الأسرة/المواطن بعد 2008؟!

    متى المثقف والسياسي والراهب تعلمّ فهم قراءة ما على السطر، بدون قوالب ولا تسرّع، من أنّه وسع علم كل شيء، أو بمعنى آخر يفهمها وهي طائرة، هناك أمل في الحوار معي، للوصول إلى أن يفهم ما أطرحه في مشروع صالح، فبدون أن تفهم شيء بشكل صحيح لن يمكنك تسويقه، فأنت لم تفهم معنى ضمير، والذي من خلاله، تقوم بتأويل كل شيء بعيدا عمّا موجود على السطر، ولكن حسب مزاجية وانتقائية، كما لخصته حكمة العرب بقول كل يغني على ليلاه، في طريقة الفهم، وكل إناء بما فيه ينضح، عن طريقة التعبير، أنت جزء من المشكلة بالإضافة إلى المخزن والحكومة المغربية والأردنية والإيرانية الذين يجتمعون في محاربة دول مجلس التعاون الخليجي تحت عنوان منحرف هو الأعراب أشد كفرا ونفاقا ولا حول ولا قوة إلا بالله؟!

    القرآن والإسلام لغة، والرسول جاء لكي يتمّم مكارم الأخلاق، أي هناك أخلاق لدى الـ آخر، رفضك أن تعترف بوجود أخلاق لدى الـ آخر هذه مشكلتك أنت وليست مشكلة الإسلام أو القرآن، كما هو حال أهل الفلسفة من الفينيقيين والهنود والفرس والإغريق والرومان عندما لا تعترف بوجود حضارة ما بين دجلة والنيل، بحجة يكفيهم الوحي باليهودية والمسيحية والإسلام؟! السؤال لماذا إذن كورش بعد تحرير اليهود من السبي البابلي نقل عاصمته إلى بلاد وادي الرافدين، وكذلك الإسكندر المقدوني وحتى علي بن أبي طالب نقل عاصمته إليها وكذلك الحسين عندما أراد أن ينتفض ضد الظلم شد الرحال إلى وادي الرافدين (العراق وسوريا وتركيا) ليعلن انتفاضته، لماذا؟ ما الفرق بين بدو وادي الرافدين ووادي النيل؟! أنا لم أجد غير الفرعون والشاهنشاه ومفهوم الحشمة.

    أنا أظن أعظم إنجاز لصدام حسين، كان بعد تدمير العراق عام 1991 بسبب خطأه في تكوين طوق علماني حول دول مجلس التعاون الخليجي، من العراق والأردن ومصر واليمن بعد توحيدها، فاضطرت إلى عمل عاصفة الصحراء/أم المعارك لطرده من الكويت، كما اضطرت إلى عمل عاصفة الحزم في عام 2015 لطرد إيران العلمانية من اليمن كذلك، حيث من أجل إعادة إعمار العراق ونجح حتى في إيصال الكهرباء والماء برغم الحصار الظالم إلى بغداد قبل حتى مدينة الكويت برغم كل إمكانيات العالم كانت مسخرة لها، وفاز صدام حسين مع الشعب في العراق في إصلاح كل شيء في خلال عام ونصف، السؤال لماذا بعد احتلال العراق عام 2003 وميزانية انفجارية ورفع للحصار من كل شيء لم تستطع العملية السياسية إصلاح أي شيء؟!

    أظن لا قيادة بدون العمل على خلق أجواء توفر وظائف، يكفي الدخل منها، لإعالة أسرة الموظف بكرامة، وإلاّ سيهاجر الموظف إلى قيادة أخرى ليدفع الضرائب لها، فلذلك أنا اختلف مع مفهوم القيادة السداسي (الأعمال، الرؤي، تحقيق الأهداف) (الأمان، القوة، حماية الثغرات) (الحضارة، العمارة، السلام) (البشرية، الإجماع، الزعامة) (الإسلام، خيرية الإمامة، تحقيق العبودية) (المجتمع، الإشباع، التنمية)، ولذلك مفهوم الحكومة الإليكترونية أو الذكية للوصول للحوكمة الرشيدة، يجب تطويرها في عام 2016 إلى عولمة الحوكمة الرشيدة، بإضافة بُعد اللغات إليها، لإضافة لمسة إنسانية على الآلة، كي لا تنافس المواطن على الوظيفة، بل تكون ساعده الأيمن، لزيادة دخله، ومن ثم دخل الأسرة/الشركة/الدولة، بدون تعلّم عدة لغات لا وظيفة لك الآن؟1

    ما رأيكم دام فضلكم؟

إشترك في قائمتنا البريدية