روائي كبير اجتذبته القصيدة أولاً… غونتر غراس ومهامّ الشاعر المعاصر

حجم الخط
1

رغم أنّ عمله الأدبي الأول كان مجموعة شعرية، صدرت في عام 1965 بعنوان «مزايا دجاج الريح»، وأنه واصل بعد ذلك كتابة ونشر الشعر بدون توقّف عملياً، ومارس كتابة المسرح والمقالة والنثر الأدبي والرسم والحفر؛ فإنّ شهرة الأديب الألماني الكبير الراحل غونتر غراس (1927 ـ 2015)، الحائز جائزة نوبل للآداب، لعام 1999، تنهض أساساً على نوع أدبي واحد هو الرواية، وربما بصفة محددة على سلسلة الروايات التي عُرفت باسم «ثلاثية دانزيغ»، وضمّت العمل الأشهر «طبل الصفيح»، 1959، ثمّ «القطّ والفأر»، 1961، و»سنوات الكلب»، 1963.
ذلك، بالطبع، لا يطمس حقيقة علوّ كعب غراس في ميدان الشعر، وحضوره في المشهد الشعري الألماني الحديث، كواحد من أبرز الأصوات وأكثرها أصالة وخصوصية، وإثارة للجدل أيضاً. ولعلّ عنوان مجموعته الشعرية الأولى يدلّ على كبرى السمات التي سوف تطبع كتاباته الشعرية في المراحل الأولى، أي حرصه على أن يكون الشعر لعباً لغوياً وبلاغياً في الجوهر، وأن يكون الشاعر «بهلول» الشعب الذي يقول الحقائق أيّاً كانت مرارة آثارها، وأيّاً كان مقدار التزام الشاعر بالقضايا السياسية الجادّة. هذا، على سبيل المثال، رأي الناقد البريطاني الشهير مايكل هامبرغر، كبير مترجمي غراس إلى الإنكليزية وأحد أفضل الإخصائيين في الشعر الألماني الحديث. وهو رأي ليس غريباً عن قناعات غراس نفسه، الذي رأى أنّ الفنّان «صانع تسلية»، والشعراء «بهاليل بلاط Court Jesters ممّن يتقنون الكتابة».
غير أنّ وظيفة البهلول هذه ليست بالبساطة التي تبدو عليه للوهلة الأولى، رغم ما تعكسه بالفعل من حسّ التسلية والسخرية واللهو. ففي قصيدة بعنوان «لا تلتفت إلى الوراء» يقول غراس:

لا تدخل في الغابة
ففي الغابة ثمة غابة.
وكلّ مَن يخطو في الغابة،
باحثاً عن الأشجار،
لن يُبحث عنه فيما بعد داخل الغابة.

لا يأخذنك الخوف،
فمن الخوف تفوح رائحة الخوف.
وكلّ مَن تفوح منه رائحة الخوف
سوف يكون عرضة لشَمّ
الأبطال الذين تفوح منهم رائحة الأبطال.

لا تشرب من البحر،
فللبحر مذاق المزيد من البحر.
وكلّ مَن يشرب من البحر
سيشعر من الآن فصاعداً
بعطش إلى المحيطات وحدها (1)

وهكذا ندرك أنّ هذا اللهو اللغوي الظاهري ينطوي على الكثير من الدلالات الجادّة، بحيث يشكّل كلّ مقطع خماسي موقفاً فلسفياً من الوجود في الطبيعة، ليس واضح المعالم بالضرورة، وليس مغلقاً في ما يثيره من رؤية، وليس ميتافيزيقيّ النبرة، وفي وسع القارئ أن يتعامل معه بألف وجه ووجه، بدون أن يُغلَق باب التأويل، وبدون أن تهبط درجة المتعة اللغوية والصوتية والإيقاعية.
وهذا الموقف، الذي دافع عنه غراس طويلاً، يكتسب أهمية خاصة حين نتذكر أنّ الشعر الألماني في خمسينيات القرن الماضي كانت تتنازعه قطبية ثنائية حادّة، بين غوتفريد بِن، المدافع عن «الشعر المطلق» و»الكلمات المتآلفة في وجهة أخاذة»؛ وبرتولت بريخت، المدافع عن نوع من الشعر خاضع للحكم الأخلاقي والمنفعة الاجتماعية. غونتر غراس جاء لتمثيل «الشاعر البهلوان» في الوسط تماماً: حيث للكلمات جاذبيتها، وحيث للمجتمع حقوقه. الحاسم مع ذلك، خصوصاً في الأطوار المبكرة من شعر غراس، كان حقّ البهلول في إقصاء الإيديولوجيا حين تعكّر صفو الحال الشعرية، وعلوّ حرية البهلول في اللعب الفني على كلّ ما عداها حين يقع التنازع.
وبعد سنة من صدور «طبل الصفيح»، نشر غراس مجموعته الشعرية الثانية، والأهمّ ربما: «وصلة المثلث». وهنا أيضاً كان العنوان يشير إلى سمة الشعر، إذ أنّ التعبير مستمدّ من اسم محطة مترو في برلين، تتقاطع عندها خطوط شطرَي المدينة. «الشاعر ـ البهلوان» أخذ يلتفت إلى الوقائع أكثر فأكثر، وصارت خرائب برلين تخيّم على النصوص، بل إنّ إحدى القصائد تحمل عنواناً بريختياً صريحاً: «أنشودة السحابة السوداء». لكنّ اللعب البلاغي لا يتراجع كثيراً، والقصيدة تواصل حسّ التسلّي والتسلية، وتستمرّ الدلالات العميقة في التخفّي طيّ القول البسيط المفتوح على أبواب تأويل لا حصر لها، كما في القصيدة الشهيرة: «الكراسي المطوية»:

كم هي محزنة هذه التبدّلات.
الناس يفكّون لوحات الأسماء عن الجدران،
يأخذون قصعة الملفوف
لتسخينها من جديد، في مكان مختلف.
أيّ نوع من الأثاث هذا
الذي يروّج للرحيل؟
الناس يحملون كراسيهم المطوية
ويهاجرون.
السفن المثقلة بالحنين إلى الأوطان وبالحاجة إلى الإقياء
تحمل بِدَع جلوس مرخّصة
ومالكوها غير المرخَّصين
يتحركون جيئة وذهاباً.
والآن، على جانبَي المحيط العظيم
ثمة كراسٍ مطوية؛
كم هي محزنة هذه التبدّلات (2)

وليس غريباً أن يعترف غراس بأنه، في هذا الطور من حياته الشعرية، كان متأثراً بالشاعر الإسباني فدريكو غارسيا لوركا أكثر من راينر ماريا ريلكه، شاعره المثال.
في المجموعة الشعرية الثالثة، «مُستجوَبْ»، 1967، يتنقّل غراس بين أكثر من أسلوب وينأي، في بعض الأمثلة، بعيداً عن أسلوبيته السابقة، وتطغى القصائد السياسية على المجموعة، وتبدو وكأنها تدافع عن الغناء المحض في وجه حداثة تجريدية تنتهك اللغة وتسفّه المعنى. والحال أنّ أدب ألمانيا الغربية كان، في أواخر الستينيات، غارقاً في المشكلات السياسية أكثر من تلك الأدبية أو الجمالية، ولم يكن مستغرباً أن تنعكس هذه الحال في شعر غراس. وهنا، في هذه المرحلة، وأكثر من أيّ وقت مضى ربما، يتراجع الشاعر ـ البهلول لصالح الشاعر السجالي، المنهمك في الشأن العام، المتنازل عن بعض حقوقه في الإبهاج والابتهاج.
الثابت، مع ذلك، أنّ غونتر غراس لم يتخلّ تماماً، أو نهائياً، عن هذه الوظيفة؛ وذلك في غالبية المجموعات والقصائد الفردية التي كتبها حتى عام 1993. ولقد فعل ذلك وهو يعرف أنه جازف، مراراً، بانتهاك الذائقة الأدبية السائدة والذوق العام الراسخ، منطلقاً من قناعة عميقة بأنّ الضحكة التي يحملها البهلول إلى الشعب ممتزجة بالمرارة أساساً، وبالضرورة.
لكن الضحكة لا تلغي، أيضاً، واجب الخوض في غمار السياسة، وفي ملفاتها الشائكة والإشكالية واليومية على وجه التحديد؛ كما حدث، في مثل هذه الأيام سنة 2012، حين نشر غراس قصيدة بعنوان «ما يتوجب قوله»، تدين البرنامج النووي الإسرائيلي، وتستنكر قرار الحكومة الألمانية بيع غواصات إلى إسرائيل يمكن أن تطلق أسلحة نووية، وتقرّ بأنّ صمت الروائي الراحل على هذه الإدانة كان مبعثه الخشية من اتهامه بالعداء للسامية. بعد أسابيع قليلة سوف يكتب غراس قصيدة مماثلة، بعنوان «عار أوروبا»، يدين فيها الاتحاد الأوروبي بسبب تضييق الخناق الاقتصادي على اليونان: «الموشك على الفوضى/ لأنّ السوق ليست عادلة/ وأنت بعيد عن الأرض/ التي أعارتك المهد».
نسوة نصف مخبولات، ينحن على خرائب برلين؛ راهبات على شاطئ، يشبهن الأرمادا الإسبانية؛ فزاعات تتقاطر، في حقول متباعدة؛ مسامير نعوش مصنوعة باليد، تُنبش من قبر بلدوزر… هكذا تصف كلمة غلاف «أرض نوفمبر» موضوعات قصائد غراس، التي اختارها هامبرغر وترجمها إلى الإنكليزية. وهي، غالباً، تقترح تعليقات استفزازية على أوضاع ألمانيا ما بعد الحرب، وتمنح البهلوان إياه فرصة التهكم العميق على الظواهر، من باطنها الذي لا يبدو مثيراً للضحك في نهاية المطاف، ولا يقارب الموضوع السياسي من السطوح.
وفي هذا برهن غراس على أنّ الشعر وليد الحياة، صنو البهجة الإنسانية، وأداة الحفر في خفايا أوجاعها.

(1) «Poems of Gunter Grass». Translated by Michael Hamburger and Christopher Middleton, Penguin Books, Harmondsworth 1971. P 59
(2) Gunter Grass: «Selected Poems 1956-1993». Translated by Michael Hamburger, Faber and Faber, London 1999. P. 19.

ناقد سوري يقيم في باريس

صبحي حديدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول إ.ع.ح.:

    الأستاذ صبحي حدديدي المحترم، قm ما قبل نشره؟
    ماذا يعني:
    ـ رغم أنّ عمله الأدبي الأول كان مجموعة شعرية، صدرت في عام 1965 بعنوان «مزايا دجاج الريح»، وأنه واصل بعد ذلك كتابة ونشر الشعر بدون توقّف عملياً،
    ـ وضمّت العمل الأشهر «طبل الصفيح»، 1959، ثمّ «القطّ والفأر»، 1961، و»سنوات الكلب»، 1963.

إشترك في قائمتنا البريدية