غرناطة – «القدس العربي»: عندما أهداني الزّميل بهاء الدين الطود هذه الرّواية مؤخراً في مدريد، بدأتُ في قراءتها على التوّ، وأنا في الأنفاق المعتمة، تحت رحمة أضواء مقصورة المترو المدريدي الحديث، الذي كان يسحق السّككَ الحديديةَ التحت أرضيّة سحقاً عنيفاً وهو يتسابق والزمنَ في سرعة فائقة مذهلة، عندئذ أحسستُ بالعَجلة المفرطة التي يمرّ بها الزّمن في حياتنا الهنيّة، وهنيهاتنا الجذلة التي تتحدّث عنها الرّواية بألمعية، وبإسهاب في معظم فصولها، اكتشفتُ كذلك منذ الأسطر الأولى أنّ ما تحتويه هذه الرواية – الصّادرة عن «دار الهلال» في القاهرة – بين دفتيها هو ليس رزمة قراطيس منمّقة داخل أغلفة مزكشة، بل شعرتُ وكأنني ركبتُ زورقاً من ورق يرحل بي في أنواء الزّمن وأهواله، ويتيه بي في أغوار «الأنا» ودهاليزه، ويغوص في أعماق «الآخر» لاستكناه خبايا النفوس الحائرة الملتاعة، واكتشاف عوالم مسحورة وتفجير أحاسيس دفينة.
«البعيدون» رحلة اغتراب وإبحار ومعاناة على امتداد الزّمن والمكان، والمسافات على متن قارب لازوردي شراعه ظلال الكلمات، وبوصلته أطياف الذكريات، هذه الرّواية تشدّك إليها بقوّة منذ الوهلة الأولى، ولا تنفلت منها إلاّ وأنت تتنفّس الصّعداء مع البطل في آخر صفحة منها، حيث يصل الكاتب بالقارئ إلى برّ الأمان بعد رحلة مضنية، ونقلة ممتعة في آنٍ واحد إلى عالم مسحور مشحون ومفعم بفيض من الذكريات والمسامرات والمغامرات، من طرف الكاتب في كلّ من مدريد وأمستردام ولندن، في فترات متفاوتة من عمره.
أحداث ونقلات زمانيّة مباغتة
تنطلق أحداث الرواية في مطعم جامعي في مدينة مدريد، التي تابع الكاتب دراسته فيها في شبابه، وسرعان ما يرخي الكاتب ليراعه العنان لينطلق في عملية سرد مسترسل في تلقائية وعفوية ليحكي لنا قصته هو في المقام الأوّل، ثم قصّة صديق عزيز عليه يُسمى إدريس في المقام الثاني، تعرّف عليه في العاصمة الاسبانية، ثم سافر هذا الصديق في ظروف غامضة إلى مدينة لندن بعد أن فارق خليلته «بيلار» في مدريد.
وفي عاصمة الضّباب يلتقي به من جديد، وفي سرعة فائقة تطوي الرّواية فيها رحلة ثلاثين سنة من الزّمان، حيث يسلّم إدريس «الرّاوي» رزمة قراطيس فيها بعض المذكرات الشخصية، ويرجوه ألاّ يقرأها إلاّ بعد مرور أسبوعين على الأقل، أيّ حتى يتأكّد له أنه أصبح بعيداّ عنه، وعندما يفتح البطل هذه الرّزمة ـ ومثلما حدث لطه حسين بالضبط عندما استلم حقيبة صديقه «أديب» من المرأة الفرنسية التي كانت تؤجّر له الغرفة التي كان يقطن فيها، إذا به أمام أدب رفيع، وحكايات مثيرة، وأخبار طريفة، وأسرار وغرائب، ومناقشات وحواريات، حول الحياة والفلسفة والوجود والدّين، والتاريخ والفن والموسيقى والأدب، تدور بين إدريس والعديد من الشخصيات التي يلتقي بها في بلاد المهجر، من طلبة وأساتذة وأصدقاء وخلاّن وخليلات، وكذلك بينه وبين الرّاوي نفسه، وأخيراً بينه وبين «إستير» الفتاة اليهودية الحسناء، التي تعرّف عليها إدريس في ظروف غامضة لدى أستاذ إنكليزي متخصّص في علوم الاستشراق، يُدعى مستر جاكوب كورت خال إستير، ويفاجأ البطل بأنّ هذا الشخص هو يهودي، حيث كان يعمل في إحدى المجلاّت الإستشراقية. (هذه التصادف أو التشابه في الوقائع بين «أديب» و»البعيدون» لا شكّ أنه بطبيعة الحال من باب توارد الخواطر، ووقوع الحافر على الحافر!).
وفى نقلة زمانية مباغتة يجد القارئ نفسَه فجأةً مع الرّاوي في مدينة القصر الكبير (شمال المغرب) وهو جالس في مقهى تُسمّى «غرناطة» مع صديق له يُدعى بوغالب، وأمطرت السّماء في ذلك اليوم بشكل لم يسبق له نظير، وكأنها أنزلت كلّ ما في عنانها من مُزن مُثقل بالمياه التي ملأت هذه المدينة الصغيرة الآمنة، وبين لمعان البّرق الخاطف، وهدير الرّعد المدوّي، وانجراف بِرك الغَمْر التي تكوّنت في مختلف جنبات المدينة من جرّاء السّيل العارم المنهمر، يدنو «إدريس» ـ الذي كان يرتدي أسمالاً بالية ممزّقة من صديقه القديم «الرّاوي» ويطلب منه سيجارة وبعد أن يناوله إيّاها ويدسّ علبة السجاير في جيبه، يطلب إدريس منه مساعدته في الحصول على جواز سفر «ليعود إلى لندن حيث ترك هناك ابنته التي أخذوها منه»..! ثم يهرول راكضاً بشكلٍ مفاجئ تحت سيل الأمطار الغزيرة (وكأنّ ذعراً أصابه..) يقتفي الرّاوي وصديقُه الذي كان جالساً معه في المقهى أثره باحثيْن عنه بدون جدوى، إذ ضاع بين الجموع الغفيرة من الناس، وانهمار المياه، وكثافة الضباب، وانتشار الوحل، وعندما يأويان إلى مقهى أخرى تسمّى (بلاتا) يخبرنا الكاتب أنّ «رائحة غريبة كانت تنبعث من هذه المقهى» تشبه رائحة البخور المنبعثة من حجرة ميت، وهي الرائحة ذاتها التي فاحت من حجرة في ضريح كان إدريس مُسجى فيها فوق حصير، بعد أن عثر على جثمانه بين مخلفات جرفتها مياه باب الواد».
هذا باختصار شديد هو مضمون هذه الرواية ،إلاّ أنّ قيمتها لا تكمن في مضمونها الدرامي المتمثل في إدريس ونهايته المأساوية المفجعة، بل إن قيمتها تكمن في السّرد المسترسل المتواصل والمتواتر التركيبي للرواية منذ لحظة «انطلاقها» في مطعم كلينيكو في مدريد إلى لحظة «نهايتها» في مقهى بلاتا في مدينة القصر الكبير .
كومة آهات
فماذا نحن واجدون في هذه الرواية، وماذا تخفي في جعبتها؟ ما كنهها؟ وما أبعادها؟ ومَنْ هو إدريس؟! هل هو شخصية حقيقية واقعية؟ أم هو من نسج خيال الكاتب؟ هل هو ظلّه؟ نفسه؟ شخصيته المزدوجة؟ أناه؟ انعكاسه في مرآة الحياة والواقع؟ أم ماذا؟ ففي فنون التراجم الذاتية التي تكتب في قالب قصصي، غالباً ما يلجأ العديد من الكتّاب إلى خلق شخصيات ثانوية مزدوجة تحمل أسماء مستعارة تقوم مقامهم في الإفصاح عن خبايا النفس وتطلّعاتها وطموحاتها، بل إنهم يلجأون أحياناً إلى تضمين هذه الشخصيات إسقاطات وأفكاراً ومبادئ، يؤمن أو يشعر بها الكاتب في الأصل، ولقد اعترف الكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير للذين كانوا محيطين به لحظة احتضاره «أنّ مدام بوفاري كانت هي نفسه..»! والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في هذه الرّواية هو ما هي صلة إدريس بالكاتب؟ وما مدى نصيبه من الواقع أو الخيال؟
الإحساس بالغربة وثقل الزّمن
وعلى الرّغم ممّا يبدو للقارئ في هذه الرواية من فتق ورتق في هندامها الدرامي، وبنيتها الفنيّة ،إلاّ أنّ «لحمتها» مع ذلك تؤلف في النهاية نسيجاً مترابطاً، حتى إن كان ينسل ثوبه حيناً في عين القارئ، ويشكّل بناءً متكاملاً متشابكاً، حتى لو تهاوت لبناته في بعض المواقف، إلاّ أنه – مع ذلك- سرعان ما يجد نفسه مرتدياً عباءة الكاتب الفضفاضة يدخلها طواعية، وبدون شعور منه، يتحرّك فيها وبها على سجيته وهواه كما يشاء فإذا به – وبدون شعور منه – يتقمّص شخصية البطل المتداخلة المتناوئة، المتناوشه فإذا به يفرح لفرحه، ويحزن لحزنه، ويسعد لسعادته طوراً، ويأسى لتعاسته أطواراً أخرى، وهكذا يغدو يرى ما يراه، ويشعر بما يشعر، ويعيش ما يعيشه، وفي آخر المطاف يقف بالقارئ محدّقاً في النهاية في مرآة شاشة عمره، حيث لا يرى فيها صورة الكاتب، بقدر ما يرى فيها صورته هو ..! ولعلّ القارئ بحكم معايشاته،وتفاعله في خضمّ القضايا، والمزايا، والرّزايا التي تطرحها، وتثيرها الرّواية يجد نفسه مشاركاً فيها بدون شعور منه، محاوراً هو الآخر، ومسامراً ومشاحناً ومشاكشاً ومسايراً لابطالها وشخوصها، في كل لحظة وحين، وسرعان ما يكتشف بعد طبخ ونفخ، وجهد وكدّ، أنه لعلّ أهمّ عنصر يميّز هذه الرواية هو إحساس الكاتب العارم المتفجّر بالغربة، وشعوره المفرط بثقل الزّمن وجبروته عليه، وبسط فرضيته وسلطته وسطوته، وتغييره وتبديله، ومفاجآته، ومباغتاته، وأخيراً اندحاره.
إنّ الكاتب يأسى من تلك اللحظات المشرقة، والهنيهات المضيئة التي طبعت تلك الأيام الخوالي التي مرّت مرّور البرق في عزّ عمره وشبابه التي يأسف عنها ولها في مستهلّ روايته متحسّراً قائلاُ: «جميلة كانت تلك الأيام» ..! فكأنّ الأيام التي تلتها أو جاءت بعدها لم تعد كما كانت عليه في شرخ الشباب وريعانه بعد أن فقدت بريقها، إنه يصف لنا هوسَ الشباب، ونزقَه، وطيشَه، وحريتَه، وحماستَه، وعنفوانَه، في عبارة رائعة عندما يقول: «كنّا نحسّ أنّ لنا أجنحة نرتفع بها إلى ما فوق السّحاب، فنلمس كلَّ ما يستعصي على ساكني الأرض، كنّا لا نتوقّف، نسير ونسير في كلّ اتجاه، كلّ ليلة لا تكتمل إلا بطريقة مختلفة عمّا سبقتها» هذا الإحساس العارم بفداحة الفقد والضياع، فقد تلك الأيام الحلوة التي تمرّ راكضة هاربة، وهذه الليالي الحالمة التي تمضي وتنقضي بين «روائح العطور والسيّدات الجميلات بقاماتهنّ المديدات، وأناقة لباسهنّ الكاشف لمفاتنهنّ البيضاء» مثل هذه المعايشات الرغيدة نراها في الرّواية وهي تنفلت من بين يديّ الكاتب كما ينفلت الماء بين أنامله..!
محمّد محمّد الخطّابي