رواية التاريخ وسرد المتخيل

حجم الخط
1

تتضح أبعاد توظيف التاريخ سردياً ودلالاته النقد ـ ثقافية في الاشتغال عليه بوصفه مفهوما اصطناعيا يستدعي الذاكرتين الفردية والجمعية، لتغدو وظيفة التاريخ الجديدة إعادة تداول التاريخ بناء على المشاهدة والمعاينة التي تتطلب التسريد والتخييل والتخريف والتحريف، وليس مجرد التوثيق. وبذلك يتم تجريد الحدث التاريخي من قيود الزمان والمكان، والتعامل معه من خلال رؤية حاضرة تستشرف المستقبل.
وقد اختلفت تمثيلات النقاد العرب على الروايات التي تستثمر الحدث التاريخي، كما تباينت رؤاهم إزاء الاصطلاح الأجناسي الذي يضع الحدود النظرية والأطر المنهجية والمواصفات الإجرائية لهذا النمط من السرد. ولا نكاد نجد عند النقاد العرب اتفاقا اصطلاحيا على تبني تسمية مثلى، تعطي لهذا الاشتغال السردي تسمية تحظى بإجماع مبدئي على صلاحيتها للتوصيف الأجناسي. ولعل السبب عائد إلى واحد من أمرين:
 الأول هو التباين في الترجمة للمصطلح الغربي، فمثلا اعتمد حيدر الحاج إسماعيل في ترجمة اجتراح ليندا هتشيون لهذا الجنس من السرد بـ»ميتا خرافة التاريخية»، تماشيا مع اهتمامها بنظرية التاريخ في مرحلة ما بعد الحداثية.
الأمر الثاني هو اختلاف الاجتهاد التطبيقي في معاينة المنظور المفهوماتي وتطبيقيه إجرائيا على السرد والتاريخ معا، والسبب تفاوت منظري السردية الحديثة في توصيف شعرية هذا الاتجاه من السرد: أهو سرد ما بعد حداثي أم كتابة ميتا تاريخية؟
وعلى الرغم من البون الإجرائي الكبير بين رواية التاريخ والروايات الأخرى، إلا إن بعض الباحثين أعطوا لبعض هذه الاشتغالات الكتابية اهتماما تطبيقيا على حساب اشتغالات أخرى. ومن ذلك تركيزهم على الرواية الميتاسردية، حتى لا فرق عندهم مثلا بين إدخال واقعة تاريخية كمخطوطة يتم استيعاب أبعادها السردية والمراهنة على إمكانيات القارئ الفكرية وممكنات الكتابة النرجسية التي وظيفتها خلخلة اللعبة السردية ووسائلها التغريب والإيهام، وبين البناء عليها تاريخيا بالمفهوم الما بعد كولونيالي في محاولة لكشف النسق الإضماري الذي يتوارى عادة خلف النسق التاريخي المعلن.
وإذا كانت رواية الميتاسرد تتبنى تداخل الأجناس كما تشتغل على القارئ فإن رواية التاريخ لا تتعاطى مع التاريخ إلا كشكل سردي ثقافي يشتغل على المركز والهامش، لا يهمه التجريب بالتقانات بقدر ما يعنيه اللعب على الأنساق. والقصد تقويض الوعي الفكري، وخلخلة الأطر المعرفية للجانب الفني والجمالي للتاريخ، فضحا له.
وبالإمكان أن يغدو التوظيف الميتاسردي على مستوى التلقي أحد بروتوكولات خلخلة المركز والهامش في رواية التاريخ. وهنا لا بد من الوقوف المتريث إزاء الخصوصية التي تتمتع بها رواية التاريخ التي تجعلها تتذَوْتَنُ بعيدا عن أي تماثل أو احتذاء لشكل روائي مماثل. بمعنى أنها ليست نمطا سرديا يشتغل على الثيمات ويهتم بالمحتوى أكثر من المبنى، مثل الروايات الواقعية التي تهتم بثيمات معينة كالمرأة أو العنف أو الريف أو العمال. أو الروايات التي تتذوتن في إطار جنوسي مثل الرواية النسوية، أو إطار إقليمي مثل الرواية الخليجية، أو الروايات التي تتقولب في شكل إيديولوجي مثل رواية المنفى، أو المتبنية لإثنية معينة مثل الرواية الكردية أو السريانية.
إن رواية التاريخ تتجاوز هذه التحديدات وتتعدى هذه التخصيصات وتتعالى من ثم على المعتاد والمطروح، من زاوية أنها ليست انحيازا للشكل كما هو الحال في الرواية الميتاسردية، وهي لا تغلب الإطار الموضوعي كما هو شأن الرواية التاريخية والرواية الواقعية، بل هي اجناسية سردية بغيتها الأساس هي الاشتغال الشكلي والموضوعي معا، في إطار ما بعد حداثي يتبنى طروحات فلسفية معينة.
وهذا ما نلمسه عند بعض النقاد، ومنهم فاضل ثامر الذي كان واعيا لهذه المسألة في كتابه «التأريخي والسردي»، لذلك لم يداوم على مصطلح الميتا رواية التاريخية فاستعمل بدله تسميات مقاربة مثل الميتاسرد التاريخي والرواية التاريخية ما بعد الحداثية وميتاسرد الرواية التاريخية، مقراً بأن هناك تنازعا دائما بين التاريخي والمتخيل بوصفهما سلطتين.
واهتم الناقد عباس عبد جاسم في كتابه «ما وراء السرد ما وراء الرواية» بالرواية الميتاسردية وأعجبه دخول الروائي كمؤلف منظور في الرواية، لكنه لم يعط اهتماما مماثلا لما سماه الكتابة على السرد، التي أوجدت صنفا لم يوجد من قبل هو «التخييلي»، ولم يبين لنا طبيعة هذا التخييلي في الكتابة السردية ككتابة جديدة.
وهو إذ يرصد على المستوى النظري الكيفيات التي بها يمارس المؤلف الروائي دوره داخل الرواية، منشغلا بنفسه وموقعه في السرد؛ فإنه على المستوى التطبيقي يمط حدود رواية الميتاسرد لتتجاوز على رواية التاريخ. ففي نقده لرواية «موت الأب»، للروائي احمد خلف، يجد أن استثمار الحكاية التراثية بوصفها مخطوطة ليس هو المقصود بحد ذاته، وإنما المقصود به هو شكله الدال المفتوح على مدلولات متعددة، كالماضي في الكتاب ونظيره الحاضر في الواقع، بصيغة استثمار الإحالة بالمعكوس.
  وعلى الرغم من تنبه الناقد إلى أن هذا الاشتغال يجري على مستوى النص لا على مستوى القارئ، إذ ليس الهدف تشويش ذهن المتلقي وإنما تكسير التسلسل المنطقي للمروي عن طريق خلق فجوات وقفزات وانتقالات سردية، إلا انه لم يقف عند استثمار الإحالة التاريخية كبناء داخل نصي، لا كاشتغال على مستوى الميتا نصي. وكذلك سؤاله المتعجب: كيف حدث أن تكون «ليلة الملاك» رواية نسق من غير مركز، وأن تكون لها هذه النهاية في آن واحد؟ وهذا ما يجعلنا نتساءل لماذا إذن أغفل الناقد علائقية التاريخ بالسرد؟
فليس توظيف المخطوطة كمدونة أو وثيقة، ولا استعمال تواريخ مذيلة، هي التي تصنع الميتاسرد كاشتغال تجريبي لا احتوائي. وإنما هو قدرة المستدعى التاريخي، واقعة كانت أو شخصية، على بلوغ ما وراء التاريخ لتدخل إلى مكنونات المادة المسرودة فتجعلها ذات حساسية زمانية، تغوص في الماضي وتطفو إلى الحاضر وتحلق عاليا نحو المستقبل صانعة عالما قرائيا جديدا مداره الواقع وما وراء الواقع.
ومثلما أن الرواية المتعددة الصوت ليست ميتاسردا، كذلك ليست رواية الميتاسرد رواية التاريخ بالضرورة، لأن هذه الأخيرة لا تقوم على الميتاسرد وحده، وإنما قد تعتمد على الذاكرة أو السيرة الذاتية الروائية أو السرد السير ذاتي.
ووفقا لهذا التعاطي تصبح الأعمال الروائية مثل رواية «حكايات دومة الجندل» للروائي جهاد مجيد رواية ميتاسردية. والسبب أنها وظفت التاريخ لكنها لم تنقلب عليه، إذ انشغلت بفنية الشكل والكتابة الروائية وجماليات ما وراء الرواية، واضعة القارئ نصب عينيها ككيان فعلي لا ضمني، وبمقصدية خلخلة أفق التوقع وخلق مسافة توتر جمالية على مستوى التلقي القرائي. بينما تغدو روايته «أزمنة الدم» رواية تاريخ، والسبب أنها تقصدت الانقلاب على وقائعية التاريخ.
ولا غرو أن إثبات تسمية رواية التاريخ على تسميات أخرى كرواية محكي التاريخ أو رواية المتخيل التاريخي أو الرواية الميتاتاريخية وغيرها، أمر شبه محال، لأن ذلك يتطلب توافقا نقديا عربيا من نواح مختلفة تتصل نظريا بالترجمة والفلسفة والتاريخ واللغة والنقد والسرد. ومع ذلك فإن إمكانية اجتراح توصيف ما، والاهتداء إليه، لا يفسد في المسألة أمرا، ولا يصادر توجهات معينة، كما لا يناقض توجهات أخرى، وإنما هو اجتهاد لا نقدمه إلا على سبيل الاقتراح والتصنيع.
وهذه التسمية للرواية التي تستثمر التاريخ لها بروتوكولات بناء، من قبيل التمثيل والمرجع والميتاسرد والانتماء. وهي بمثابة آليات عمل ما بعد حداثية، تتبنى رؤى نظرية بإزاء الزمن والذاكرة، وتنطلق مهتدية بما يستجد في حقل الدراسات النسوية والدراسات الثقافية، لتؤدي دورها كمضادة أو بديلة للتاريخ.

ناقدة وأكاديمية من العراق

رواية التاريخ وسرد المتخيل

د. نادية هناوي سعدون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول salah:

    الرواية التاريحية هي كباقي الروايات تربط احداث واشخاص لتصنع منهم مادة للروايه وتبدع احيانا في تغير المفهوم المتدوال حول الاشخاص وقد تستخدم لتغير صورهم النمطية وهنا يجب التفريق بين الرواية التاريخيه والتاريخ الحقيقي لان الرواية قد تشوه هامات وتدمر قيمهن ومنجزاتهم

إشترك في قائمتنا البريدية