رواية «الغرانيق « والتبعثر العبثي الذي يقود إلى تصحيح الرؤية

يمارس الروائي مازن عرفة في روايته «الغرانيق» الصادرة عن دار نوفل تطهير النفس من هلوسات راسخة ومتجذرة في النفس البشرية الميالة إلى الديكتاتورية، القادرة على قلب الحقائق والعودة بنا إلى الغرانيق، والقصة التي ما زالت عالقة في جدلية التاريخ أو عبر ميثولوجيات تقبع بين النفي والحقيقة، وما لا يصدق أو تاريخ سوريا الممزوج بحكايات شخصية عاشها مازن عرفة بما يشبه الماضي والحاضر، وكيف سيكون المستقبل، البعض يعتبرها خرافة والبعض يصدق بها أو يهلوس معها، والمنطق هو الفاصل بينهما.
وما الاصنام، اللاة والعزة ومناة الكبرى إلا عبارة عن رمزيات سقطت مع منطق فضاءات الأمكنة في رواية تشعبت خيوطها، وامتدت متسربلة في زوايا التاريخ وحشود الأحداث المتتابعة، والمتوالدة من نزعات نفسية تأثرت بالإرهاب والحروب الأيديولوجية الداعمة لحركات التحرر والتطهير على السواء، ومؤثرات كل ذلك على الحجر والبشر ومخلفات الحروب، معتمداً على المونولوجات الداخلية والأحلام الساخرة وقوة الاستحضار التخييلي، عبر فانتازيا لأشباه الآلهة، أو لكل مصاب بجنون العظمة وتداعيات الانكسار في العصر البدائي الذي وصلنا إليه. لأننا مقولبون منذ الطفولة لنحيا خرافة أو حكاية أو حتى العقائد العسكرية.
والكبت النفسي هو إحدى السمات التي تركت الروائي مازن عرفة في حالة من التبعثر العبثي الروائي، الذي يقود إلى تصحيح الرؤية عبر ذاتية تمثل عيشه في حياة اجتماعية هي بيئة الرواية وامتدادها، فالتشظي في الأنظمة الديكتاتورية بشكل عام، هو معاناة العالم برمته، وليست فقط في بلاد المشرق الذي ما زال بحاجة إلى التطور، ومعالجة هلوساته النفسية والابتعاد عن الفكر التطهيري بمعالجات داخلية تعكس قوة الداء، والقدرة على مداوته بالخروج من البداوة القاتلة في الغرب عبر الماضي والشرق الذي ما زال يحمل في طياته العنف بصوره المختلفة، فهل يحاول مازن عرفة استحضار الزمن الحياتي عبر الزمن الروائي، في أمكنة ضاقت به وضاق بها، فتماهى من خلالها مع حكاية ليلى والزعيم الجنرال أو فيلسوف دولة الشمال؟
فلسفة الحفاظ على الدولة أو فلسفة رواية جعلت من لعبة الحرب والظلال لعبة كوابيس سريالية، تتغذى على التاريخ والأحداث اليومية التي يرصدها من خلال الأصنام، والجمود الإنساني الذي نعاني منه في الداخل، أي المجتمعات التي تمارس العنف جهرة وبالخفاء، وإن ضمن الحروب التي تبدأ من داخل الإنسان وعائلته ومجتمعه وزوجته وأولاده وأصحابه، وما إلى ذلك من عنف يمارس بحق النفس، حيث تصبح الضحية هي الضحية والجلاد، وهي الميت الحي والمصدق والمكذب لبشاعة ما تتم ممارسته في الحروب التي تعيدنا إلى الجاهلية الأولى، حيث حرب الأصنام والأوثان، أو قصة الغرانيق، وما تلاها من أكاذيب تم تلفيقها وإعادة صياغتها، وجعلها ضمن عدة وجوه يفصلها مازن عرفة باسلوب يستفز القارئ ويثير في نفسه الغضب أحيانا، بل يستخرج العنف من قارئ تعلق بغرانيقه التي يحطمها واحدة تلو أخرى. ليجعل من السادية السياسية سادية إنسانية أولا وأخيراً، فهل يمكن للواقعية السحرية أن تضعنا في أجواء روائية تتمزق فيها الأنفس والأجساد، وتنمو فيها الأحلام والكوابيس بعيدا عن الجزء؟ وهل البدء بتعميم لفكرة الديكتاتورية في العالم ومؤثراتها على الإنسان والحيوان والجماد هي كالغرانيق؟ أم أنه يؤمن بتحطيم الأصنام الداخلية للعودة إلى الحرية أو السلام أو متعة العيش بعيدا عن كوابيس الأنفس السادية المصابة بأمراض أحلام اليقظة والعودة بالبشرية إلى التمزق والتشظي والاندثار؟
تصورات كارثية لحروب تشن على المعتقدات، فتلوثها وتصيبها باختلاطات منها التكفيري ومنها السياسي ومنها الأدبي، ومنها المحمل باصطفافات ترعى الفوضى الخلاقة، وتستهدف العمق الإنساني أولا لتعود به إلى بدايات التألق الذهني أو الخلق المتحرر من سلوكيات تم زرعها فيه عبر التاريخ، فأصبح مثل دراكولا كمصاص دماء يعيش على القتل والدماء والعنف، فما من شفاعة ترتجى بعد ذلك، وما من سلام يأتي ولا من تراجع عن الأخطاء التي وقعت، فهل رواية الغرانيق أملاها مازن عرفة بهلوسات الوقائع والأحداث التي اختزنتها التصويرات السريالية في الرواية؟ أم هي أصنام من أنواع مختلفة تم تلفيقها تاريخيا ويعيد اكتشافها مازن عرفة في الغرانيق، ليصحح مسارات تأريخية تحدث كابوسيا عبر ساديات سياسية طاحنة تأكل الأخضر واليابس، بل بتنبؤات مستقبلية ستجعل من التلفيق الأساس لقيامة العالم من جديد، بدون العمى أو بمعنى أصح بدون ممارسة للعبة العنف وتكسير الأصنام والتوجس من معتقدات لا تمت إلى الإيمانيات بشيء. إنما هي مجردة من لعبة الخير والشر وسيكولوجية الرعب والخوف وإقامة دويلات على أشلاء الكوابيس والأحلام، فهل الكآبة السادية هي من مقومات الانتفاضات التي حدثت في الشرق؟
ليلى والذئب واختطاف البلاد، وما يتكرر عبر التاريخ بمختلف صوره الحكايات منها والأحداث التاريخية أيضا، وما القطيع في المسيرات الجماهيرية، إلا نحن الذين نعيش في مخاوفنا غير قادرين على الخروج من متاهة الصراع، أو البشرية التي تتعارك بين موال ومعارض، وبين موافق ورافض والأكثر واقعية من أضغاث الأحلام التي نفضها في الفصول الأخيرة من الرواية، ليغسل النفس من وسوساتها، ويضع القارئ أمام النتائج العلاجية بعد عصف كامل بالحواس، برمزيات تختلف من علبة الدخان ماركة الجيش إلى القداحة إلى الطفولة الأولى إلى القيادة الأولى، لدراجة لا تحمل القنابل ولا القذائف ولا تميل إلى قصف الاهداف العسكرية التي تنذر بالويلات، مستبطنا المعنى اللغوي بالرمزي وبرسم سريالي لقراصنة البر ولأبتر القدم والعين المفقوءة والكوابيس بلا أحلام.
سيجارة الجيش وكبريت المدفع وماركات استهلاكية، لسلع تربينا على شرائها للأهل والاجداد، وكأنه ينتزع من طفولتنا تلك المفردات التي تتداعى على سمعنا منذ الولادة، والمحصودة الآن كنتيجة من يقتل النملة يقتل الفيل، ومن يقتل الحيوان يقتل الإنسانية برمتها، وما التخيلات إلا لب الواقع الذي يجري الآن في الدول كافة حتى مسميات الربيع العربي باتت كوابيس العالم الذي يضج بالقتل والمجازر والترويع والرعب الذي يمارس، ويتم تصويره أو تتناقله شبكات التواصل الاجتماعي بدون الولوج إلى اكتشاف التلفيق أو الدسائس أو الأخبار غير الحقيقية العشوائية، وما تضمنته الأحداث من نتائج كارثية على المجتمعات العربية بشكل خاص.
بناء لشخصية الزعيم أو الجنرال أو تداعيات لعبة الظلال التي أرسى قواعدها ووضعها ضمن نظرية الاحتمالات أو الفرضيات وفروقات الأزمنة بين الشباب وما يترتب عليه من قيامات لاشباه الالهة ضمن جمع النتائج الممكنة الصادرة عن الأجيال المتتابعة في تجربة روائية عشوائية تشبه ما وقعنا فيه في الشرق من هزل في مواضيع ذات أسس جمعت من مخطوطات، وكأن العدو يحاربنا في العقائد التي خرجت من تراثنا ومن شرقنا الذي أصيب بنكسات كابوسية، لحدث عشوائي مركب غرانيقي النزعة لجزئيات أحادية تقاتل بعضها بعضا، وكأننا في لعبة قتالية تخيلية هي عبارة عن تهيؤات نفسية ذاتية الشبيهة بقتل ناديا أكثر من مرة «فتلك آخر محاولة قتل لها، إذ انتقلت بعد ذلك إلى مدرسة أخرى في المدينة»، وحلم اليقظة الجماعي الذي جعل من الأحلام والانتصارات علبة ثقاب من ماركة المدفع لا تشتعل.
توافق بين الأحداث الواقعية والتخيلات بأسلوب دمج فيه أحلام اليقظة مع المونولوج الداخلي مع الفانتازيا مع كل ما يتكسر على أرض الحقيقة بمرارة التاريخ والعصر الحالي الذي يعود بنا إلى الجاهلية والغرانيق من نوع آخر، وما المجتمعات الشرقية إلى رجولة تنفخ النار من فم ديناصور اندثر، أو وما الحرب إلا طرزان في غابة وما الحلم المقبل من بلاد الشمال إلا هلوسات وغرابة تراجيدية لمشاهد روائية غزلها مازن عرفة بثقل فلسفي غرائبي، يجمع تفاصيل إنسان أمضى عمره من الطفولة إلى الشيخوخة بلباس عسكري لم يخلعه بانتظار أن يقضي على الأحلام المرتبطة بسرابية الفعل المؤجل والسريالية في تحقيق الأهداف الطفولية المؤجلة في عمر الشباب فالكهولة والرحيل بدون حدوث لاي تغيير يذكر.
تلفيقات روائية ما هي إلا قرائن لمسيرة حياة وإدراك للخفايا العمرية في الذاكرة والتحليل بدقة وسخرية من تاريخ لحيوات لم تنشئ الا العادات والتقاليد والمكتسبات، وتحطيم الأحلام وإثبات الذات عبر اليقظة الملغمة بالأوهام، وبرفض لعسكرة الحياة أو لقوانين مجتمعية لا تمت بصلة إلى الإنسان الحق، فالأذى المتدفق من التعذيب بأشكاله النفسي والاندفاع القهري في تحقيق اللذة الازدواجية النفسية والجسدية والترؤس والميول في الانحراف السلوكي، حتى في قتل النمل وتعذيب الحيوانات، وكل هذا يؤدي إلى التفنن في إجهاض الثورات والعودة إلى الحقيقية بعيدا عن تلفيقات الغرانيق، وما إلى ذلك من تلفيقات أخرى تزج بنا في أتون الحقائق المزورة. فهل للغرانيق انتفاضة يقظة تعيد الإنسان إلى الصحوة الكبرى قبل أن يموت الإنسان؟

٭ كاتبة لبنانية

رواية «الغرانيق « والتبعثر العبثي الذي يقود إلى تصحيح الرؤية

ضحى عبدالرؤوف المل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية