ما بين مقولة مالك حداد «الفرنسية منفاي» ومقولة كاتب ياسين «الفرنسية غنيمة» متوالية من الأسئلة المحيّرة حول سبب لجوء الروائي العربي إلى لغة غير لغته، والتأكيد على حضوره من خلال لسان الآخر؟
إذ من الواضح أن العبارة الأولى تشي بحالة قسرية اضطر بموجبها الروائي العربي إلى الكتابة بلغة غير لغته الأم، فيما توحي العبارة الثانية بخيار طوعي للاستيلاء على لغة الآخر والتعبير بها، من منطلق الكتابة الإثباتية المؤكدة على قدرة الروائي العربي على التجاور الأدبي مع الآخر، والانتقال من الهامش إلى المركز، حيث يزدحم طابور من الروائيين بين المقولتين عبروا عن وجودهم الأدبي والحياتي بمختلف اللغات، مثل مولود فرعون، والظاهر جاووت، ورفيق شامي، ورشيد ميموني، وليلى الدباغ، وأنور حامد وغيرهم ممن كتبوا بلغة تبدو فيها معالم هوية القارئ غير مستقرة، إذ لا يمكن التيقن إن كان عربياً أو أوروبياً أو عالمياً.
عندما كتب إدريس الشرايبي في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي روايته «الماضي البسيط» بلغة المستعمر، ثارت ثائرة الوسط الأدبي، حيث أاتهم بالخيانة والعمالة، في الوقت الذي اُستقبلت فيه روايته في فرنسا وأوروبا بابتهاج وتشجيع. وفي معرض المعركة التي دارت حينها دافع الشرايبي عن خياره بعبارات مستفزة، فقد عبر عن رفضه للاستعمار، إلا أنه اعتبره حالة ضرورية من أجل خلاص العالم الإسلامي وتحريك النهضة الاجتماعية، وربما كانت هذه المعادلة هي أبرز ما تضمنته بعض الروايات المكتوبة بلغة الآخر المستعمر، حيث يرتفع منسوب الانتقاد للحياة والمعتقدات العربية الاسلامية من منطلقات تنويرية.
وإذا كانت البدايات مجرد مراودات لدخول النادي الأوروبي أو ما يُعرف بالأدب الأورفوني، فإن المنتجات الروائية اللاحقة حققت من النجاحات ما يكفي لأن تتحول إلى قيمة معيارية محرضة على الكتابة ضمن هذا التصور، حيث حصل الطاهر بن جلون على جائزة الكونكور عن روايته «ليلة القدر» كما حازها أمين معلوف عن روايته «صخرة طانيوس» وكاد كمال داوود أن يحققها هو الآخر قبل عامين عن روايته «مورسو: تحقيق مضاد» لولا فارق التصويت، كما دار الحديث في وقت من الأوقات عن ترشيح محمد ديب لجائزة نوبل، وكذلك آسيا جبار، أما أهداف سويف فقد تأهلت بروايتها «خريطة الحب» إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر وهكذا، وهو ما يعني أن الكتابة بلغة الآخر تختصر المسافة نحو المركز وتتثبت من خلالها الخطوات الأولى نحو العالمية، أو هكذا تبدو الظاهرة من خارجها.
في السنوات الأخيرة خفت حدة الحساسية والنقد الموجه لهذه الروايات، كما خفتت النبرة المضادة للفرانكفونية كأيديولوجيا منذورة لتكريس القيم الفرنسية في مستعمراتها القديمة، تماماً كما تجاوز الأنكلوإنديان جروحهم مع بريطانيا وكتبوا بالإنكليزية ما يمكن تصنيفه في دائرة تشبه ما حدث في العالم العربي، لكن الأهم أن الروايات العربية المكتوبة بلغة الآخر حققت من النجاحات على مستوى المقروئية ما فاق أفق التوقع، فهي بالفعل تمثل اليوم رحيق الكتابة الروائية العربية، وبينها وبين القراء ما يكفي لتعزيز مكانتها، واستحقاق منزلتها الأدبية، حيث تزدحم بالموضوعات الجريئة المتصادمة مع أوهام الإنسان العربي، كما تتسم بالكفاءة الفنية التي تحفظ لها نصابها الأدبي في ظل فورة روائية كمية لا يُهتدى فيها إلى رواية ذات قيمة فنية أو موضوعية.
المبررات التي دفعت أحمد أبو دهمان لكتابة روايته «الحزام» بالفرنسية تختلف عن دوافع أحمد الصفريوي – مثلاً – عندما كتب راويته «التيوس»، كما تختلف عما أدّاه محمد خير الدين في روايته «أغادير»، وإن كانت كل تلك الروايات لا تشير إلى انتقال كلي إلى عوالم الآخر، بقدر ما تؤشر إلى انزياح نحو ثقافته ولو من خلال اللغة، بما تختزنه من أفكار وتقنيات تعبيرية، بمعنى أن الذات الروائية العربية هنا تراود نفسها بالانتقال من الأطراف إلى المركز، حيث لا يعني هذا الانزياح انتماء تلك المنتجات إلى الأدب الفرنسي، فهي آداب عربية إسلامية، بكل طقوسها ومشهدياتها وانتماءاتها، ولكنها مكتوبة بلغة غير عربية، بدليل أن آسيا جبار عندما دخلت الأكاديمية الفرنسية للآداب صرحت بعباراتها الشهيرة «أنا عربية مسلمة» ولم تعلن انسلاخها من مكوّنها الديني أو الاجتماعي، تماماً كما وصف البير قصيري عن نفسه بـ «الكاتب المصري الذي يكتب بالفرنسية، مصر في داخلي وهي ذاكرتي».
ذلك لا يعني أن القارئ العربي قد غفر للروائيين ما بدر منهم من تجاوزات بسبب كفاءة منتجهم، إذ لا زال القارئ يتوجس من ممارسات ودوافع أي روائي يكتب بلغة غير لغته الأم، ويعتقد أن نجوميتهم لا تتأتى فقط من حرفيتهم في الكتابة الروائية، بل بما يؤدونه في مضمار الكولونيالية الثقافية، وبما تختزنه رواياتهم من روح استشراقية تحط من قيمة الثقافة الإسلامية، وتمجد الاستعمار، وبما يبدونه من استعداد للتطبيع مع العدو الصهيوني سواء داخل النص أو خارجه، مثل بوعلام صلصال الذي شارك في مهرجان في القدس المحتلة عشية الذكرى الرابعة والستين للنكبة واحتفال إسرائيل بتأسيسها، وكذلك أمين معلوف الذي أدلى بحديث إلى قناة اسرائيلية في إطار التطبيع الثقافي، حيث أطلق عليه حينها لقب «ليون الإسرائيلي» وأيضاً رشيد بوجدرة الذي استفز المسلمين بإعلان إلحاده قبل أن يتراجع تحت وطأة المحاكمة والمساءلة، وكمال داوود الذي كتب مقالاً في «لوموند» الفرنسية وُصف بأنه يغذي أوهام الغرب بمعاداة الإسلام.
إن القراءة الفاحصة المتأنية لبعض الروايات المكتوبة بلسان مضاد أو مجاور تكشف عن مضمرات خطاب يؤكد ما يتوجس منه القارئ العربي، فهي بالفعل مهجوسة بالتشديد على غلبة المركز، وعلى التنصل من مظاهر وممارسات العرب والمسلمين، كما تبدو محقونة بروح استشراقية تجعل من العالم الإسلامي محلاً للفرجة، حيث يبالغ بعض الروائيين في عرض الصور الشائهة للأطراف والإشادة بخصائص المركز، وذلك تحت عنوان مناقدة الواقع، وهو ما يعني اهتداءهم إلى الخلطة التي تغري القارئ الغربي، وهو أداء نقدي لا تختص به الرواية العربية المكتوبة بلغة الآخر، حيث يحضر هذا الأداء أيضاً في روايات خالد حسيني وسلمان رشدي وعتيق رحيمي وآذار نفيسي، من خلال مناقدات ضرورية تهب السرد جذوته ولو من منطلق تحويل العالم الإسلامي إلى صندوق فرجة.
الرواية العربية المكتوبة بلغات غير عربية آخذة في التزايد والتمدد داخل معظم اللغات المعاصرة، بسبب مجموعة من العوامل التي يتشابك فيها الخيار الطوعي الذاتي بالظرف الموضوعي العام، وحتى هذه اللحظة لم يتقدم النقاد باقتراح مصطلح جامع لكل تلك المنتجات الروائية المتشظية، كما أن الروايات ذاتها لم تُقرأ كظاهرة ثقافية متعددة الأبعاد، إذ يعيش معظم الروائيين الذين يكتبون بلغة الآخر حالة من التوتر مع مجتمعاتهم العربية المسلمة التي لا زالت تنظر بقدسية إلى مسألة اللغة، والتي ترفض أن يكون للروائي أي دور تنويري في مساءلة المعتقدات والممارسات المغلوطة، كما يفتح النجاح المعولم لبعض الروائيين شهية فصيل جديد من الروائيين لتجريب حظهم بالانتقال إلى لغة وثقافة الآخر، وكأن نظرة الريبة التي وجهت لأول رواية كتبت ضمن هذا التصور ما زالت هي أُس الثقافة المهيمنة.
ذلك مآل ثقافي بائس ينبغي الانزياح عنه، بالبحث عن الروايات العربية المجهولة في أطلس الروايات المكتوبة بكل اللغات، أي خارج الخريطة الأنكلوفونية والفرانكفونية، وطرح كل ذلك المنجز على طاولة حوار صلبة لفحص مضامينها وهواجس كُتّابها الذاتية، إذ لا يمكن تصنيف كل رواية تكتب بلغة الآخر في جبهة الخيانة للغة والثقافة والدين والمجتمع، وما كل رواية تتناول الحالة الاستعمارية تنكتب من أجل تمجيدها، ففي ذلك المنجز من الخبرات اللغوية واللالغوية ما يحتاجه الروائي والإنسان العربي، أما الذات التي تكتبها فهي ليست مغتربة تماماً عن زمانها ومكانها وثقافتها، ولكنها منزاحة بعض الشيء عن لغتها، أو بمعنى أدق هي ذات تؤدي فروض سردها بلسان مستعار من الآخر.
٭ كاتب سعودي
محمد العباس
رواية ” التيوس ” Les boucs للروائي إدريس الشرايبي ، وليست للكاتب أحمد الصفريوي كما ورد في المقال !
مقال جميل وموضوعي في نظرته إلى كتاب الروايات بلسان الآخر. ( هي ذات تؤدي فروض سردها بلسان مستعار من الآخر) ما أجمله من توصيف . تحية للكاتب .
في اللغة العربية اللسان له أكثرمن لفظ ومعنى ؛ فهويذكّرويونث معاً ؛ فيقال له : الشاهد والعصا والسلطان…وكلّ لفظ له دلالة وظيفية.ففي مواجهة الظلم يطلق عليه العصا ؛ كما في عصا سيدنا موسى الكليم ؛ لأنه في مواجهة ظلم فرعون الطاغية والملأ الأفاقين…والناس توهمّوا أنها عصا الراعي من غصن الشجرالخشب.فكانت تهدربوجه الطاغية حيّة كثعبان ؛ أي كهديرالسيل الثعب في الوادي الرحب.فاللفظ العربيّ صورة…والشاهد الذي له حضورللحدث كما في قوله سبحانه وتعالى لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم في سورة القصص الآية 44 : { وما كنت بجانب الغربيّ إذْ قضينا إلى موسى الأمر؛ وما كنت من الشاهدين }.لهذا يقال لمنْ حضرالواقعة في المحكمة وأمام القضاء ليدلي بما رأى : الشاهد.والسلطان تطلق له على شدّة الحواروالمناظرة والمجادلة كما في مناظرة سيدنا موسى مع سحرة فرعون لأنهم كانوا أصحاب لسان سليط.نكتفي بهذه الثلاثية لأسأل السّيد محمد العباس ؟ اللسان المستعارمصطلح جديد فهل تعني به التقمص للشخصية أم الذي يقوم بدورالدوبليرفي الرواية والفلم والمسرح والتمثيلية ؟ ياسيدي الأمرمتعلق باللغة…إنّ اللغة ليست هي الكلام المحكي فقط كما هي عند العوام ؛ اللغة هوية وانتماء وشخصية…منْ كتب بلغة قوم انتمى إليهم ولوكان غريباً عنهم ( من حيث يدري أولا يدري ).أنا لديّ أكثرمن مهارة لغوية شرقية وغربية ؛ لا أستطيع الكتابة إلا بالعربية ؛ حينما أرى حروفاً غيرعربية أصاب بالاختناق ؛ أبحث حقاً عن الأوكسجين فأجده في الضمّة والفتحة والكسرة والسكون.وأقول الحمد لله ربّ العالمين الذي أنزل كتابه العظيم بلغة العرب ؛ ولوناصبهم العالم كلّه العداء اللعين.
وأضيف بعد إذن المحررالحصيف…أنّ الشاعرالرائع نزارقباني ؛ وهوالشاعرالمنفتح والمتحرروالملمّ بأكثرمن لغة..سُأل بعد اقترانه بالعراقية بلقيس
الرّواي : لماذا لا تتزوّج من امرأة أوربية لتجد فيها الحريّة المطلوبة عندك ؟ فأجابهم بالمسكت المُغني( لا أريد أنْ أبقى طوال حياتي ترجماناً ).
أعلم أنّ المترّجم له باع طويل بلغتين أوأكثر؛ والمهم لديه القدرة فيهما للتوازن اللفظي والمعنوي…إنما اللسان المستعاركالشعرالمستعارمجرد :
باروكة تصلح للممثلين فقط ؛ وليست للصلعين قطّ !!!
لا أجد فرقا معنويا بين الكتابة بسلان عربي و لسان أوروبي ما دامت البنية الفنية و أساليب التفكير مستقاة من الغرب. الفكرة كلها غربية الطابع و ترتهن لعملية تنوير تعتمد حتى اللحظة على إنجازات العقل و العاطفة الغربية. و لا يمكنني استهجان ذلك.. لأن الحوض المعرفي العربي لا يزال مثقلا بسلبيات السبات الثقافي. ماذا يوجد من العروبة في رواية روائح ماري كلير. أو في رواية حارس الموتى. إنها تتكلم عن هم إنساني تصادف أنه في أرض عربية. و تعيش مثله كل دول البلقان.