شرعت روسيا بعمل مكثف لعودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم. والكلام يدور عن أكثر من مليون شخص اجبروا على مغادرة ديارهم بسبب العمليات القتالية المتواصلة منذ 2011. ولكن العدد الضخم للناس ليس هو التحدي الرئيسي الذي سيواجه موسكو وحلفاءها، فهناك صعوبات أخرى في عودة اللاجئين إلى سوريا. وجعلت روسيا على خلفية «تحفظ» الغرب على المشاركة فيها، من ملف عودة اللاجئين، مكونا من مكونات جهودها لتطبيع الوضع في سوريا. وقال ممثل الرئيس الروسي الخاص بالشؤون السورية الكسندر لافرينيف: «ينبغي أن تكون عودة اللاجئين السوريين لوطنهم طوعية حصرا» واستدرك «لا يجوز وضع العراقيل الاصطناعية أمامها»، في إشارة إلى مواقف الغرب.
وبعد أن تناول الرئيس فلاديمير بوتين قضية عودة اللاجئين خلال مباحثاته مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 16 تموز/يوليو في هلسنكي، ضاعفت موسكو اتصالاتها بالدول الأوروبية ودول اللجوء مثل الأردن ولبنان لتحريك «مبادرتها» الرامية إلى إنشاء فرق عمل مشتركة في عَمان، تجمع ممثلين من روسيا وأمريكا والأردن، إضافة إلى مركز مماثل في لبنان. وتصدرت قضية اللاجئين أيضا اللقاء الثلاثي: روسيا ـ تركيا ـ إيران في إطار «أستانا» الذي انعقد في منتجع سوتشي في 30 و31 تموز/يوليو الماضي.
وقال الرئيس الروسي في المؤتمر الصحافي المشترك مع ترامب في ختام القمة «إذا ما سنساعد الناس على العودة إلى ديارهم، فسوف يخف ضغط موجة الهجرة على دول الاتحاد الأوروبي وغيرها من الدول». وأشار أيضا إلى أن «في مقدور روسيا والولايات المتحدة، قيادة هذه القضية والتعاون للتغلب على الأزمة الإنسانية، والمساعدة على عودة النازحين إلى ديارهم».
وراهنت روسيا بعد قمة هلسنكي على إن ترامب سيدعم مثل هذه المقاربة. ولكن الإدارة الأمريكية رفضت في وقت متأخر «التحركات الملموسة» التي تخرج عن السعي لمواصلة المباحثات. وألقت الناطقة الرسمية باسم الخارجية الأمريكية هيذر نويرت في 24 تموز/يوليو الماضي الضوء على موقف واشنطن من المسألة، حيث أشارت إلى إن الولايات المتحدة تعتقد إن الوضع الحالي في سوريا غير ملائم لعودة اللاجئين. وقال نيقولاي بورتسيف ممثل وزارة الخارجية الروسية إن الجانب الأمريكي لم يرد لحد الآن على اقتراحات وزارة الدفاع الروسية بصدد عودة اللاجئين إلى ديارهم.
وترى روسيا إن تمويل المجتمع الدولي لعملية إعادة إعمار سوريا سيخلق الظروف الملائمة لعودة اللاجئين، وينبغي أن تكون هذه العملية «غير مُسَيسة». وبعبارة أخرى يتوجب عدم اشتراط المساعدات بمطلب إطلاق «عملية المرحلة الانتقالية» في سوريا، التي حسب موسكو ينبغي أن تكون ثمرة الاتفاقات بين الحكومة والمعارضة في إطار مؤتمر جنيف والانتهاء من إعداد الدستور من قبل القوى السورية.
وعاد الرئيس الروسي للموضوع خلال لقاءاته بالمستشارة الألمانية انغيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. ووعدت ألمانيا وفرنسا تقديم المساعدات للنازحين داخليا واللاجئين العائدين لمناطق إقامتهم الدائمة. ووصف مراقبون هذا الموقف بانه تطور هام في موقف باريس وبرلين، بعد أن أوقفتا كافة أشكال المساعدات الإنسانية للمناطق التي يسيطر عليها النظام.
والسؤال المطروح الآن يكمن في مدى استعداد بلدان الغرب المشاركة في تمويل إعادة إعمار سوريا في إطار المساعدات الإنسانية. وقال ممثل فرنسا في الأمم المتحدة فرانسوا ديلاتر «إننا لن نشارك في إعادة إعمار سوريا، ولحد أن يجري تنفيذ مرحلة انتقالية سياسية فعلية». ولكن هذا الموقف لم يثن عزيمة موسكو في المضي بتسريع عملية عودة اللاجئين وتهيئة الظروف الملائمة لهم. فالجانب الروسي يدرك إن إعادة الإعمار سيكون عاملا هاما في توفير الاستقرار السياسي في سوريا، بيد أن المبادرة تحتاج إلى تمويلات ربما ستكون روسيا وحلفاءها غير قادرون على تأمينها. لذلك فأنها تحاول إقناع الغرب بان المشاركة في هذه العملية سيصب في مصالحها وبخلافه فإنها (الدول الأوروبية) لن تتمكن من تجنب موجة هجرة جديدة من مخيمات اللاجئين السوريين، أو تكون تلك المخيمات، قاعدة لجر مقاتلين جدد لتجنيدهم في صفوف الجماعات الإرهابية.
وقال ممثل وزارة الخارجية الروسية بورتسيف، إن مواقف الدول الأوروبية متباينة من الموضوع. وأوضح أن المشاورات الروسية ـ الفرنسية التي عُقدت في 24 تموز/يوليو الماضي في موسكو تناولت من بين قضايا أخرى مسألة عودة اللاجئين والمساعدة الإنسانية. كما تستمر الاتصالات بالجانب اليوناني حول عودة السوريين الذين يقيمون هناك بصورة مؤقتة، كما إن السويد أعلنت للجانب الروسي عن أن سياساتها ترمي إلى دمج السوريين في المجتمع السويدي، وأعلنت الهيئات الحكومية النمساوية عن سعي اللاجئين السوريين إلى الاندماج في المجتمع النمساوي عقب الحصول على صفة لاجئ، حيث سيحصل اللاجئ على حق العمل والضمانات الاجتماعية. كما تواصل موسكو اتصالاتها بدول اللجوء الأوروبية الأخرى، حيث يقيم اللاجئون السوريون لبحث مسألة عودتهم الطوعية لبلادهم.
بيد أن المؤشرات تدلل على إن روسيا جعلت من قضية عودة اللاجئين ركنا هاما في استراتيجية تسوية النزاع السوري. فإلى جانب نقل المساعدة الإنسانية وإعادة الحياة الطبيعية للمناطق التي كانت بيد التشكيلات والفصائل المسلحة المعارضة للنظام، بدأ العسكريون الروس بعمل كثيف لعودة النازحين إلى سوريا. وتشكلت لهذا الغرض «هيئة أركان التنسيق المشتركة» التابعة لوزارتي الدفاع والخارجية حول عودة اللاجئين، وضمت أيضا العديد من الوزارات ومؤسسات الدولة الأخرى. وضمن هذا السياق تم في 18 تموز/يوليو الماضي وبالتعاون مع الحكومة السورية فتح مركز لاستقبال وتوزيع النازحين. ولا تزاول هذه الهيئة الروسية فقط القضايا المشار إليها وإنما تتبنى توزيع المساعدات، فضلا عن استعادة عمل الخدمات الاجتماعية. كما تم افتتاح معبرين للدخول من الأردن ولبنان، ومن المرتقب فتح معبر ثالث.
وفي الوقت نفسه وجه العسكريون الروس فريق عمل إلى لبنان والأردن وتركيا لمعالجة قضية عودة النازحين إلى سوريا، كما أفاد رئيس «المركز القومي لإدارة الدفاع لروسيا الاتحادية» الفريق أول ميخائيل ميزينتسيف. ونوقشت في بيروت وعَمان مسألة إنشاء مراكز مشتركة لعودة النازحين السوريين، والتي ستعمل على مدار الساعة. ووفقا للتقديرات المتوفرة فسيعود لسوريا من الخارج في الفترة القريبة المقبلة حوالي 1.7 لاجئ. وتستعد سوريا لاستقبال الآن زهاء 330 ألف شخص في 76 منطقة سكنية، الأقل تعرضا للدمار خلال العمليات القتالية.
وترى صحيفة «إزفيستيا» الصادرة في موسكو انه وبالرغم من الأعمال التحضيرية، التي تقوم بها روسيا بالتنسيق مع سوريا وغيرها من البلدان، فان الكثير من اللاجئين لن يسرعوا بالعودة إلى بلدهم. وهناك أسباب عديدة لذلك «فلا يخفى إن الكثير من السوريين غادروا بلادهم ليس بسبب الحرب، وإنما من تصورات سياسية، كونهم من صفوف المعارضة». وقالت انهم بحاجة إلى ضمانات. وترى: «إن توفير مثل هذه الضمات وبأي شكل من الأشكال قضية صعبة للغاية وتتطلب تنسيقا جادا بين روسيا وسوريا».
وأضافت: «علاوة على ذلك إن الكثير من السوريين اندمجوا خلال إقامتهم طيلة سنوات النزاع بمجتمعات دول اللجوء. ولكن ثمة من أمضى هذه السنوات في معسكرات اللاجئين الذين اجبروا على النزوح. وهناك من بدأ حياة جديدة ولا يسعى للعودة إلى حياته السابقة. لاسيما ان العودة ستكون ليس لبلد مزدهر وإنما مدمر وبحاجة إلى إعادة إعمار».
واختتمت الصحيفة بالقول إن روسيا أخذت على عاتقها مهمة «طموحة» وان هناك من سينظر بشكوك إلى هذا التحرك ويتوقع فشله قبل الأوان «ولكن القيام بذلك أفضل من عدم القيام بأي شيء، والقول ان وقت عودة اللاجئين لم يحن بعد». في إشارة إلى موقف الغرب.
11HAD
فالح الحمراني