ريتشارد رورتي أو النيوبراغماتية

عرفت النزعة البراغماتية في الفلسفة المعاصرة، خاصة مع روادها الأوائل شارل ساندرس بيرس، وليام جيمس وجون ديوي، بأنها النزعة النفعية التي تفرغ الحقيقة من كل مضمون أخلاقي مثالي، وتجعل منها مجرد وسيلة لتحقيق المنفعة، وفي هذا الصدد يقول وليام جيمس: «إن امتلاك أفكار صادقة يعني على وجه الدقة، امتلاك أدوات ثمينة للعمل». وهذا الموقف يجعل كذلك من المنفعة معيارا للحقيقة. الحقيقة إذن هي التصور الذي يؤدي بنا إلى تحقيق غرض نافع، لذلك تستمد الحقيقة قيمتها من فائدتها العملية، فالأفكار تكتسب طابع الحقيقة من خلال تأثيرها على النشاط الذي يبذله الإنسان، ومن خلال الآثار العملية التي تنتج عنها . من هذا المنطلق يؤكد وليام جيمس أن الحقيقة ليست غاية في ذاتها، وإنما وسيلة لإشباع حاجات حيوية، ولذلك فالحقيقة لا تكمن في المبادئ والنظريات، وإنما في النجاح خلال الممارسة والعمل. على المستوى الاجتماعي ارتبطت البراغماتية بالنظام الرأسمالي الذي يسعى دائما إلى الربح ومراكمة الثروات، بغض النظر عن الوسائل، بما في ذلك استغلال الإنسان، وبالتالي الحط من كرامته، خاصة أن هذه الفلسفة ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية راعية الرأسمالية ومقرها المركزي.
لكن البراغماتية لم تقف عند تلك المواقف الكلاسيكية من الفكر والحياة والمجتمع، بل تعدت ذلك إلى تجديد آليات التفكير وزوايا النظر، خاصة مع الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي الذي يعد من أهم فلاسفة أمريكا المعاصرين، الذي حاول من خلال مؤلفاته تجديد الفكر البراغماتي المعاصر عبر الانفتاح على التيارات العلمية والفلسفية الأوروبية، من خلال اطلاعه الواسع على فلاسفة ما بعد الحداثة، خاصة نيتشه وهيدجر وفوكو ودريدا. كما أنه ينتمي إلى جيل من الفلاسفة الأمريكيين الكبار، الذين تتراوح انتماءاتهم الفكرية والعلمية بين البراغماتية الكلاسيكية والتجريبية المنطقية وفلسفة العلم المعاصرة نذكر من بينهم: هيلاري بوتنام، ويلفريد سيلارز، فيلارد كواين، توماس كوهن، ويجد القارئ في جل كتابات رورتي حوارا مع أفكار هؤلاء الذين يمثلون حقا الفلسفة الأمريكية المعاصرة بمختلف مشاربها الفكرية والثقافية. ومن أهم مؤلفات رورتي الكتاب الموسوم بـ»الفلسفة ومرآة الطبيعة»، وتتجلى أطروحة هذا الكتاب في محاولة رورتي تجاوز نظرية المعرفة التقليدية، التي ترتكز أساسا على مفهوم العقل ووضع الثنائيات التي تترتب على هذا الأساس، خاصة ثنائية العقل/الجسد، بالإضافة إلى ما يتبع ذلك من إنتاج لإشكاليات مزيفة مثل التقابل في المذهب الثنائي الديكارتي، الذي يقول بوجود جوهرين: العقل وماهية الفكر والمادة وماهيتها الامتداد. إن الصورة التي تشكلت من هذا الوضع هي تلك التي سجنت الفلسفة التقليدية، وهي صورة العقل كمرآة كبيرة شاملة على أشكال تمثيل مختلفة، بعضها دقيق وبعضها الآخر ليس دقيقا، الشيء الذي جعل هذه الفلسفات تقف على أرضية دوغمائية وتستند إلى مقدمات خاطئة ولا تحمل أي شيء إلى الإنسانية والى العلم. لذلك يرى رورتي بأنه ينبغي التخلص من هذه المنظومة المعرفية الميتافيزيقية والرجوع إلى الواقع المادي للإنسان. من هذا المنطلق يرى رورتي بأنه ينبغي أن ننظر إلى أعمال أشهر ثلاثة فلاسفة في القرن العشرين وهم: لودفيغ فتغنشتين ومارتن هيدجر وجون ديوي، الذين أحدثوا ثورة فكرية ترقى إلى مستوى البراديغم الذي تحدث عنه توماس كوهن في مجال تاريخ العلم، حيث حاول كل واحد منهم أن يضع طريقة جديدة لجعل الفلسفة تأسيسية، أي طريقة جدية لصياغة سياق أخير للفكر، فحاول فتغنشتين أن يؤسس نظرية تمثيلية لا تكون لها علاقة بالمذهب التفكيري، مشككا في مشروعية المشاكل الفلسفية الكلاسيكية التي أرجع معظمها إلى مشاكل لغوية أسيء التعبير عنها ورأى أنه: «ما لا يمكننا قوله ينبغي إسكاته». وسعى هيدجر إلى إنشاء مجموعة من المقولات الفلسفية تكون بريئة من أي علاقة بالعلم والابستمولوجيا، أو المسعى الديكارتي وراء اليقين، محطما بذلك مختلف الصور والمجازات التي شكلها الفلاسفة منذ الإغريق، والتي تحولت إلى طبقات من التراث حجبت ما هو أصيل ووافر المعنى. أما جون ديوي فقد عمل على تأسيس نسخة طبيعية عن رؤية هيغل للتاريخ مؤكدا على الاستعمال النفعي للمعارف عوض توهم الوصول إلى المعرفة المطلقة . ومعنى ذلك أن هؤلاء الفلاسفة المجددين عملوا على تأسيس فلسفة مضادة للفلسفة الديكارتية والثورة الكانطية، متخلين بذلك عن «فكرة العقل» كما تجسدت في الفلسفة الحديثة، ابتداء من ديكارت ومرورا بجون لوك وانتهاء بكانط، بوصفها موضوعا خاصا للدراسة تجعل من المعرفة شيئا ممكنا، بمعنى أنهم تخلوا عن المنظومة التي ترى أن نظرية المعرفة والميتافيزيقا هي عبارة عن أنظمة ممكنة.
يرى ريتشارد رورتي كذلك أنه لا يوجد مصدر لدينا يمكن الاتكال عليه غير استمرارنا في محادثة واحدنا للآخر، وحتى في هذه الحالة نحن لا نملك وسائل موثوقة لتقرير ما نقبله على أنه حقيقة، غير ما يجري في المحادثة لأنه لا شيء يعد تسويغا إلا بإرجاعه إلى ما كنا قد قبلناه. ومع ذلك ينبغي امتحان العلاقة القائمة بين الأفكار والأشياء التي تمثلها عبر مجهود جماعي تتعاون فيه عقول جميع الاختصاصات عبر محادثة شاملة تسعى إلى إقناع الآخرين بمواقفنا واعتقاداتنا. يتضمن الكتاب ثمانية فصول توزعت على ثلاثة أقسام كالتالي:
القسم الأول: جوهرنا الزجاجي، حيث تناول مسألة اختراع العقل وأشخاص بلا عقول.
القسم الثاني: الانعكاس في المرآة: ويتضمن فكرة نظرية المعرفة، وأشكال التصورات المميزة والابستمولوجيا والسبيكولوجيا التجريبية الحسية.
القسم الثالث: الفلسفة ويتضمن من الابستمولوجيا إلى الهرمينوطيقا والفلسفة بلا مرايا.
يوضح رورتي في مقدمة الكتاب سبب اختياره لعنوان: «الفلسفة ومرآة الطبيعة» معتبرا أن الأمر يتعلق بالصور وليس بالقضايا المنطقية، وبالاستعارات وليس بالجمل الخبرية التي تحد معظم معتقداتنا الفلسفية، والصورة التي سجنت الفلسفة التقليدية هي اعتبار العقل مرآة كبيرة تشتمل على أشكال تمثيل مختلفة، بعضها دقيق وبعضها ليس دقيقا، يمكن درسها بمناهج غير تجريبية حسية وبغير مفهوم العقل الذي يعتبره مرآة، لم يكن ممكننا أن يقدم مفهوم المعرفة المفيد بأنها دقة التمثيل نفسه. وبغير هذا المفهوم الأخير، لا يكون معنى لإستراتيجية ديكارت وكانط المشتركة، وهي الحصول على أشكال تمثيل أكثر دقة، بفحص المرآة وترميمها وصقلها. وبغير هذه الإستراتيجية في العقل، لا يكون معنى للآراء الحديثة عن أن الفلسفة يمكن أن تتألف من تحليل للتصورات، أو تحليل للظواهر أو شرح للمعنى أو فحص لمنطق لغتنا، أو لبنية النشاط التكويني للوعي. عموما رغم النبرة التشاؤمية التي تميز بها خطاب رورتي، والتي أدت إلى اتخاذ الكثير من المواقف التي لا يتفق معها الكثير من الفلاسفة والمفكرين، فإن دعوته إلى إعادة قراءة الفكر الغربي قراءة شاملة عبر تفكيك وبيان ثغراته يعتبر عملا يساهم في إغناء الفكر الإنساني بصفة عامة.

كاتب مغربي

المهدي مستقيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية