زغلول الدامور عملاق الزجل اللبناني وسندباده

حجم الخط
0

كانت منازلة تاريخية تلك التي جرت بين جوقة زغلول الدامور وجوقة موسى زغيب. آنذاك قيل إن 16 ألف شخص قدموا إلى بيت مري من أنحاء لبنان، ليكونوا شهودا على مجرياتها. ذاك الرقم كانت تنقصه الدقّة في حينه، إذ جرى احتسابه تقديريا من قبل الحاضرين أنفسهم، لكنه في أيّ حال يدلّ على احتشاد ضخم للناس في حفلة زجلية. وهذا ما حوّل تلك المنازلة إلى يوم مشهود في تاريخ هذا الفن، حيث ما زالت تستمر أعداد من حضروا فيها بالتصاعد مع مرور الزمن لتصل، كما تردّد في نشرات الأخبار التلفزيونية في هذين اليومين الأخيرين، إلى ثلاثين ألفا.
وقد جرى التوافق بين من استقبلتهم الأقنية التلفزيونية، على أن تلك المنازلة كانت الأضخم في تاريخ الزجل اللبناني. صحيح أن هذا التاريخ يحفظ أسماء كبيرة سبق وجودها أولئك الثمانية الذين تنازلوا، أو تواجهوا في تلك الأمسية التي جرت في سنة 1971، إلا أن الاحتفال الزجلي لم يكن قد تأسّس بعد. قبل أن تتأسس الجوقات، في أربعينيات القرن الماضي ربما، كان الناس يجلسون قعودا على الأرض فيما هم يستمعون إلى الشاعر الزجلي، حسب ما وصف زغلول الدامور في مقابلة نادرة كانت أجريت معه. الاستماع قعودا، أو إقعاءً، يدل على ضآلة أعداد المستمعين آنذاك، كما يشير إلى اقتصار الحضور على أبناء قرية واحدة كان الشاعر (وجمعه، بلغة الزجل، «شُعّار» وليس «شعراء» كما في التداول الفصيح) قد حلّ بها في أثناء طوافه بين القرى.
ومن أبواب ذاك التأسيس، أو المأسسة كما يقال في اللغة الأكثر ابتعادا عن القاموس الزجلي، أن صارت للزجل موضوعاته المتضادة، مثل الليل أو النهار، الكذب أو الصدق، الشقراء أو السمراء، إلخ، يتولّى كل من الزجالين المتنافسين المنافحة عن أحدها. كما من أبوابه أيضا ما كان ذكره زغلول الدامور في تلك المقابلة من أن الشعر الزجلي صار يقال بلهجة لبنانية خالصة حيث، في السابق :كانت تداخله كلمات مثل، ليت وهكذا وأين، إلخ.
في سنة 1944 شكّل زغلول الدامور جوقته التي ارتفع معها شأن الزجل عامة لأسباب عدة بينه،ا برنامجها التلفزيوني الأسبوعي. كان شعّار الجوقة التلفزيونيين الأربعة قد أصبحوا وجوها معروفة، بل مشهورة لدى اللبنانيين جميعهم في بدايات عقد الستينيات من القرن الماضي. وهم ظلّوا كذلك حتى رحيل آخرهم، وهو رئيس جوقتهم زغلول الدامور، مساء يوم السبت الفائت. أي أن «الأبطال» الأربعة، وأشهرهم الثنائي زغلول الدامور وزين شعيب، ظلا نجمين، حتى بعد انقضاء ما يقرب من أربعين عاما على توقّفهما عن الظهور.
هم أبطال، وهذه واحدة من صفاتهم التي تردّدت على ألسنة من استضافتهم التلفزيونات لتأبين «الزغلول». لم يكن الزجالون في حاجة إلى من يطلق عليهم الألقاب أو الصفات، فهم كانوا قد بادروا إلى ذلك بأنفسهم. في المنازلات كان الواحد منهم يقول عن نفسه أنه بطل، وأنه قوي وأنه فاتن وملهم الشعراء، وعملاق إزاء الأقزام الشعراء، إلخ. ولم يكن ذلك يبقى في نطاق الكلام الزجلي إذ يُظهره قائله كما لو أنه يعدّد صفاته كشخص. «آه يا أبو علي» كانت تردّ جوقة الحاضرين منتصرة لبطولة زين شعيب الرجل وليس فقط لشعره. وكذلك كانت تردّد المجموعات الساهرة أمام التلفزيونات في البيوت. وأغلب هؤلاء هم أهل القرى الذين كانوا قد نزلوا إلى بيروت مصرّين على الاحتفاظ بثقافة قراهم. كما كان هؤلاء يؤثرون ألا يشاهدوا حفلة الزجل منفردين، فيدعون بعضهم بعضا إلى الاجتماع أمام شاشة تلفزيونية واحدة.
هي منازلة إذن، بالشعر. في منازلة عام 1971 المذكور عنها أعلاه، كان زغلول الدامور، رئيس جوقته، في مقابل موسى زغيب رئيس الفرقة المقابلة. كان أحدهما يحتاج إلى الآخر، قال أحد من استضافتهم قناة تلفزيونية، من أجل أن ينازله أو أن يتحدّاه على الأقل. هي مبارزة بالكلام، أو بتأليف الكلام، على نحو ما هي المبارزات الرياضية. أما في فرقته فكان الزغلول، واسمه الحقيقي جوزيف الهاشم، فكان شاعر الاعتدال والحكمة فيما منافسه، زين شعيب، شاعر المغالاة والمراجل.
في مطلع سبعينيات القرن الماضي أوقف التلفزيون برنامجه الزجلي الأسبوعي. لكن الزجل لم يغب، أو الأحرى أنه سعى إلى إبقاء حضوره عن طريق المنازلات التي كان منها، مثلا، تلك التي أقيمت ضمن مهرجانات بيت الدين. أذكر أن الحرب ومسائلها كانت قد تسرّبت إلى ما قاله شعراؤها، وإن بطريقة لطّفها فنُّهم. بعد ذلك، مع شعراء آخرين، ازدادت الحرب حضورا داعية الشعّار إلى رفع ألوية طوائفهم. بعد ذلك لزم هؤلاء منازلهم. وإذ عادوا في السنوات الأخيرة إلى الظهور على شاشات تلفزيونية، فذلك من قبيل الاحتفاء بماضي القرى اللبنانية. لكن الزجل قائم في ذاكرة اللبنانيين أكثر مما هو حاضر في عيشهم. رحيل زغلول الدامور أظهر أن الحنين ما يزال قويا إلى ذاك الزمن، رغم سرعة توالي التغيّرات وتراكمها بعضها فوق بعض. ما زال صوت الزغلول الجميل، بل الأكثر جمالا بين رجال هذا الفن، يثير الشوق إلى ما راح يسمّيه متذكرو الزغلول «الزمن الجميل». وها هم، احتفالا به، يطلقون عليه صفاتٍ وألقابا جديدة جعلوا بعضها عناوين لمداخلات ومقالات نشرت في الصحف والتلفزيونات ووسائل التواصل الاجتماعي: كبير شعراء الزجل اللبناني، سندباد الزجل، أيقونة الزجل، الأسطورة، عميد الزجل اللبناني، ملك الزجل اللبناني…
نهار السبت الفائت رحيل زغلول الدامور (جوزيف الهاشم) أحد أشهر شعراء الزجل في لبنان عن 93 عاما، بعد معاناة مع المرض.

٭ روائي لبناني

زغلول الدامور عملاق الزجل اللبناني وسندباده

حسن داوود

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية