الضربات الجوية لداعش، بلا تتمّةٍ برّية ولا أفق سياسيّ معلوم، لا «تَقْلي زلابيةً»، على قول ابن الرومي.
ودخول أمريكا حرباً لا يعني بالضرورة أن تكسبها فهي قد خسرت حربين من الصنف نفسه في السنوات الأخيرة، على الرغم من نشرها عسكراً على الأرض. قد يعني دخولها الحرب قدرتها المميّزة على تحمّل هزيمة أخرى بعد هضم التحدّي الذي حملَها على تحريك عسكرها.
تشبه الضربات الجوية «صفحةَ الماء يُرمى فيه بالحجرِ» إذا تابعنا اقتراض الصور من الشاعر نفسه.
فكتلة الحجر تطرد الماء من حيث تقع لتنشره إلى مسافات متباينة حولها. وهي تجعل الدوائر «تنداحُ» (والعبارة لابن الرومي أيضاً) من حولها. أي أنها تدفع داعش، في الحالة التي نواجه، على التوسّع إلى بلاد أخرى: إلى لبنان،مثلاً، وإلى الأردن، ناهيكم بدول الجزيرة… ولا ضرورة لتحريك المقاتلين أنفسهم من سوريا أو من العراق بل بات يمكن الاعتماد على مقاتلين تستنبتهم داعش من المجتمعات المحيطة.
أقدمَت أمريكا على دخول هذه الحرب بعد تردّد مديد. وهي تباشرها من الجوّ بعقيدة «زيرو كاجولتي» (صفر إصابات) التي جنحَت إليها (وإن لم تنجح في التمسك بها) منذ حرب تحرير الكويت سنة 1991. وهذه عقيدةُ دولةٍ تحترم أرواح جنودها وتخشى الرأي العام في ديارها… ولكنها، من الجهة الأخرى، عقيدةٌ ترفع كلفة تحريك العسكر وحمايته إلى مستويات خيالية وتحدّ من فاعليته القتالية فوق ذلك. وهذان أمران يطيلان أمد الحرب ويعودان فيزيدان ضغط الرأي العام على مؤسسة الحكم بسبب تراكم الأكلاف على اختلافها ورزوحها على الحياة الاقتصادية خصوصاً. هذا إلى ما يجرّه هذا الأسلوب في القتال من زيادة هائلة في ضحايا المدنيين ومن أضرار مختلفة أخرى حيث تدور المواجهة وما يلي ذلك من ضغط سياسي أو معنوي على الدولة المحاربة…
يتّحد هذا كلّه ليضعف الدولة الفائقة القوّة في مواجهة تشكيلٍات مقاتلة يمثّل الانتحار أسلوبها الأبرز في القتال وتحصي «شهداء»ها بـ»الملايين» سلفاً ولا تترددّ في إرهاب خصومها بالقول «بالذبح جيناكم» دونما تحسّبٍ من لطخة يتركها على صورتها هذا الشعار أو ما شاكله من قولٍ أو فعل. وهي، إلى ذلك، لا تسترخص شيئاً استرخاصها أرواح المدنيين الذين توزّعهم بين الجنّة والنار بحسب مقتضى الحال ولكنها ترسلهم إلى العالم الآخر في كلّ حال.
و»ما أَنْسَ لا أَنْسَ» – يقول ابن الرومي أيضاً – ما يتعهّده الأمريكيون ومن معهم من الأطلسيين من شدٍّ لأزْرِ التشكيلات «المعتدلة» في المعارضة السورية ومن اجتراح لـ»حرسٍ وطنيّ» في العراق يسدّ مسدّ الجيش الذي ظهر فشله الصاعق في الموصل… هاتان هما القوّتان اللتان ستقع عليهما أعباء القتال البرّي أو معظمها، على ما يظهر. ولكنّ السائد، في ما يتّصل بالتشكيلات السورية المشار إليها، هو الشكّ في «اعتدال» بعضها والشكّ في وجود البعض الآخر. والسائد في ما يتّصل بالعراق، هو التشكيك في أن تُفلح الطبعة الجديدة من «الصحوات» حيث أخفق جيشٌ أُنفِقَتْ عليه بلايين. نحن حيالَ شكٍّ وتشكيك، إذن، وهذا لا يعادل الجزم الذي لا يبدو أحدٌ قابضاً على مفاتيحه، في الظرف الحاضر. ذاك ما يعوّل عليه المعسكر المواجه لداعش وهو يزهو بضمّه نحواً من خمسين دولة ولكنه استجلب من الجهة الأخرى موقفاً تركياً ذا خطرٍ موسوماً بتقلّبات جزئية، مدروسة بلا ريب. وهو، إلى هذا، يُقْبِل على المواجهة بأنظمةٍ عربيةٍ، نفطية وغير نفطية، لم تلفحها الثورات مباشرة ولكنها أظهرت، مع ذلك، ما هي عليه من وهن حين يُستطلع المستقبل ومن ضعف في الجاذبية حين تُذكر البدائل. وكانت النفطية منها، على الخصوص، متّهمة أصلاً بالاستواء موئلاً للقاعدة ثم لِما تخلّفت به هذه الأخيرة من أشباهٍ ونظائر…
أَوْلى من ذلك بالنظر القريب أن المعسكر نفسه إذ استبعد «التعاون» مع النظام الأسدي واستبقى، مع ذلك، برنامجه القتالي في سوريا، قد أثار مواجد النظام المشار إليه، بطبيعة الحال، وأثار معها حرَد الحليفين المعهودين لهذا النظام: روسيا وإيران. أما مفعول المعارضة الروسية فقد يُقْتصر على خلخلة الشرعية الدولية للحرب الجديدة، وهذه شرعية فقدت بكارتها مراراً. وأما الثنائي السوري – الإيراني فستجهد المشاورات المكتومة والمعلنة في تلطيف غيظه. ثم إنه يملك في مواجهة المعسكر الذي استُبعد من عضويته وسائل متنوّعة عزّزتها الخبرة الطويلة. يتعين الانتباه، فوق ذلك، إلى أن الطرف الإيراني، وهو أقوى الاثنين، يباشر هذه المرحلة الجديدة من المواجهة وعينه على مفاوضاته النووية وعلى ما في يده من أوراق منشورة بين صنعاء وبيروت. والمفاوضات النووية والأوراق الإقليمية قوّة للنظام الإيراني يتصرّف بها في التجاذب المتواصل ولكنهما عبءٌ عليه أيضاً تمتحن العقوباتُ الدولية قدرتَه على حمله. ما الذي يُحتمل أن تفعله إيران وتابعها السوري؟ لم يخطئ من ذكّر بسوابق البراغماتية الفاقعة التي سبق أن أبداها الطرفان في تاريخ أمسى طويلاً. أبدتها إيران حيال أمريكا نفسها وإسرائيل في ما سمّي إيران غيت وأبدتها من الجهة الأخرى حيال الولايات المتحدة وحيال تنظيم «القاعدة» معاً في حربي أفغانستان والعراق، إلخ. وأبداها النظام الأسدي حيال الولايات المتحدة أيضاً في هاتين الحربين وفي أزمة لبنان، بعد اغتيال رفيق الحريري، وقبل ذلك في حرب تحرير الكويت وحيال تنظيم «القاعدة» أيضاً في محطّات وصيغ مختلفة بينها تهريب «المجاهدين»، بعد تدريبهم، إلى العراق المحتلّ وبينها فصْل فتْح الإسلام في لبنان وبينها، مؤخّراً، إطلاق سراح سجناء القاعدة من سجن صيدنايا لصَبْغ الثورة السورية، وهي لا تزال حركة متظاهرين سلميين، بصبغة الإرهاب الإسلامي… وبينها، أخيراً لا آخراً، سكوت النظام طويلاً طويلاً على توسّع داعش نفسها في شرق سورية وشمالها. إلخ.
هذا كلّه لا ينذر بحلف صريح يضمّ داعش إلى الثنائي الإيراني السوري. ولكنه ينذر، على الأرجح، بلعبٍ ثلاثيّ معقّد يتعاقب فيه تشجيعُ داعش ولَجْمُها ومحاولةُ الاستثمار في ما تحقّقه على الأرض بغيةَ تحصيل مكاسب من الأمريكيين وحلفائهم على جبهاتٍ أخرى لقاءَ التخفيف من الغلواء الداعشية. وهذا لعبٌ يجب أن يُنْظر فيه إلى أثره في المشادّة المكتومة أو شبه المكتومة بين «متشدّدي» النظام الإيراني و»معتدليه». وفي هذا كلّه، لن يوجد في الميدان من يحتسب الضحايا والدمار في العراق وفي سوريا. تلك مهمّة قد يتولاها مركزٌ صغيرٌ ما واقعٌ في خارج الميدان. وأما الذين هم في الميدان، على اختلاف المواقع، فمهمّتهم مقتصَرة على الاستكثار من الضحايا والخراب.
يرجّح إذن أن تخطئ الزلابيةُ أفواهَ المتلمّظين… يرجّح أن تكون هذه الحرب المستأنفة محطّة على طريق بلادنا الطويل نحو مصير يبدو الآن أغمض ملامح ممّا كان قبل سنتين أو ثلاث… ولكن لا تَغْلب على صُوَره القريبة، في كلّ حال، بشائرُ خلاصٍ…
كاتب لبناني
أحمد بيضون
ومُستقرٍّ على كرسيِّه تَعِبِ / روحي الفداءُ له من مُنْصَبٍ نَصِبِ
رأيته سحراً يقلي زلابيةً / في رقَّةِ القِشْر والتجويف كالقَصَبِ
كأنما زيتُه المَغْليُّ حين بدا / كالكيمياء التي قالوا ولم تُصَبِ
يُلقي العجينَ لُجيناً من أناملهِ / فيستحيلُ شَبابيطاً من الذهبِ
(ابن الرومي)
ما أنسَ لا أنسَ خبّازاً مررتُ به ِ
يدحو الرُّقاقة َ وشكَ اللمحِ بالبصرِِ
ما بين رؤيتها في كفّه كرة ً
وبين رؤيتها قوراءَ كالقمر
إلا بمقدارِ ما تنداح دائرة ٌ
في صفحة الماء يُرمَى فيه بالحجر
(ابن الرومي)