زمالة المهنة والجريمة بين د. كاراجيتش ود. بشار

فور صدور حكم الإدانة على رادوفان كاراجيتش في لاهاي، سألت مذيعة البي بي سي المراسل السابق آلن ليتل: «لقد غطيت الحرب في يوغسلافيا في التسعينيات، يا آلن، وقابلت كاراجيتش عدة مرات عندما كان في أوج القوة والمنعة. هل خطر ببالك ولو مرة أنه ربما يمثل أمام العدالة يوما فيلقى جزاءه؟» فأجاب ليتل: «أذكر أني لقيته، بعد عام من اندلاع الحرب، في غرفته في الفندق أثناء مفاوضات جنيف حول خطة السلام التي قدمها اللورد أوين والتي قبلتها جميع الأطراف باستثناء صرب البوسنة، وسألته ‘ألا تخاف أن تتذكر هذا اليوم مستقبلا باعتباره اليوم الذي كان يمكنك فيه أن تختار الجنوح للسلم ولكنك اخترت الاستمرار في الحرب والمضيّ في طريق قد تنتهي (بك) في زنزانة في لاهاي؟’ فما كان منه إلا أن هز رأسه إلى الخلف قليلا، ضاحكا ضحكة مهذبة -لقد كان مهذبا على الدوام- واستهان بالمسألة باعتبارها ساذجة وغير قابلة للتصديق. وفعلا (..) لقد كان كاراجيتش يبدو آنذاك حصينا منيعا على أي محاسبة أو مساءلة. كان بعض من أفضل موظفي منظمات الإغاثة الإنسانية وأكثرهم تفانيا يجلسون إلى طاولته ويحاولون استرضاءه عساه يقبل بالتفاوض على السلام. ولكنه كان يستخف بهم جميعا بتلك الابتسامة المهذبة وبذلك العزم المبرم على تحقيق‘طهره’ العرقي بالقوة الغاشمة».
أتذكر تقارير آلن ليتل من يوغسلافيا بوضوح. فقد كنت أعمل أوائل التسعينيات في القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية، حيث كانت تقارير مراسليها المنتشرين في جميع أنحاء العالم تترجم من الانكليزية إلى حوالي أربعين لغة ليست العربية سوى إحداها.
كان هناك قسمان فرنسيان: أحدهما لأوروبا والآخر لأفريقيا، وقسم ألماني، وآخر بولندي، وروماني، وصربي- كرواتي، وروسي، وصيني، الخ. بل إنه كان هناك حتى عام 1990 قسم إيطالي وقسم ياباني، وحتى عام 1992 قسم فنلندي. وقد بعث معظم هذه الأقسام أثناء الحرب العالمية الثانية، ولهذا فإن إغلاق بعضها قد قرر بعد نهاية الحرب الباردة، حيث لم يعد لبريطانيا مصلحة في توجيه البث الإذاعي إلى دول ديمقراطية مثل فنلندا واليابان.  
وكانت التقارير تبث في إطار برامج إخبارية جادة، مثل «العالم هذا الصباح»، و»عالم الظهيرة». ولعل»العالم هذا المساء» كان أهم هذه البرامج بحكم أنه يستمد مادته من كامل الحصيلة اليومية لعمل المراسلين، وبحكم أن «العالم هذا المساء» في نسخته العربية قد كان من تقديم الإذاعي الفلسطيني الفذ ماجد سرحان. لقد كان ماجد، رحمه الله وغفر له، ظاهرة إذاعية لا تضاهى وكانت له شهرة بالغة لدى المستمعين العرب أيام كان للراديو سطوة وسلطان. أتذكر تقارير آلن ليتل بوضوح، فقد كان من أفضل مراسلي البي بي سي اتزانا ودقة وأمانة. ومن المفارقات أن البي بي سي  «لم تكن تستخدمه بما فيه الكفاية»، مثلما شهد بذلك المقدم التلفزيوني الشهير جريمي باكسمان عندما ذكر أنه تعلم من ليتل أن ينصح الصحافيين بقراءة الشعر! وقد يكون هذا من أسباب قراره مغادرة البي بي سي نهاية عام2014.
أما زوجته شينا ماكدونالد، فقد كانت، في تقديري، أفضل مذيعة بريطانية على الإطلاق. ولكنها تعرضت عام 1999 لحادث شوه جسمها وكاد يودي بحياتها، فنسيها القوم. وبلغ الأمر أني لمحتها في مطعم تركي قرب مبنى البي بي سي قبل بضع سنوات وكنت مع مجموعة من الصحافيين العرب، فسألتهم: هل عرفتم تلك السيدة؟ فلم يعرفها أحد. يا لهذه الدنيا!
كان الطبيب كاراجيتش يضحك، معتبرا أن من السذاجة مجرد التفكير في إمكان المحاكمة، ناهيك عن العقوبة بالحبس أربعين سنة. ولا بد أن الطبيب بشار الأسد، الضاحك على الدوام، سوف يضحك أيضا لو طرح عليه السؤال الذي طرح قبل 22 عاما على زميله في المهنة الإنسانية الذي هو زميله في الجريمة ضد الإنسانية. فمسألة الطريق التي قد تنتهي بالأسد في زنزانة مسألة تبدو غير واردة في عالم الإمكان السياسي الدولي المنظور، باعتبار أن الأطراف الدولية كلها إنما هي معنيّة حصرا بترتيب الأوضاع في الجغرافيا السورية بما يجمّدها في ترسيمة جيوسياسية تحفظ مصالحها، ليس إلا. ومع ذلك، فإن د. رادوفان كاراجيتش قد كان ينعم يوما بنفس الطمأنينة التي ينعم بها د. بشار الأسد اليوم. 

٭ كاتب تونسي

مالك التريكي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية