من مقولات سيرفانتس الخالدة، على لسان دون كيخوتي وهو يحادث سانشو: في مجتمع الضغينة والبغضاء، لا نملك طريقاً آخر. علينا أن نشد على الحياة بكل ما نملك من قوة وصبر. حتى عندما نفقد الأمل في كل ما يحيط بنا، علينا إعادة خلق الحياة وابتداعها.
لا أستبعد اليوم أننا نعيش في حالة دونكيخوتية بالمواصفات نفسها. هو أيضاً جاء في لحظة تاريخية فارقة انتفت فيها كل اليوتوبيات التي صنعها الإنسان لنفسه، وحل محلها التوحش ومطاردة الإنسان على معتقده وثقافته وقناعاته.
اللحظات الحادة هي التي تحرك التاريخ، لكنها في الوقت نفسه تحرق أجيالاً بإدخالها في نزاعات وحروب دموية، وأحيانا مدمرة لكل عمران وثقافة، في ظل أوضاع سياسية مرتبكة ومتداخلة تغيب فيها القيم وتحل محلها قيم أخرى. ولا غرابة في ذلك، يظل السياسي هو الذي يَصْنَع ويُصَنِّع حياتنا اليومية وفق مقاييسه المتعددة التي تلعب فيها مختلف الاستراتيجيات دورها الحيوي ويظل الإنسان المهزوم، مثل الحالة العربية اليوم، ينتظر أن تخرج منها أدهش الحلول الربانية، وينسى أن الحل يصنعه التفكير والجهد الحقيقيان، وبدون ذلك سيظل العربي يدور مثل الضرير في المكان نفسه، وهو يظن أنه قطع الفيافي والمسافات.
ما يغطي اليوم عجزنا المفجع، ليس المنتَج الاقتصادي والثقافي المنافس عالمياً، ولا الجهد العلمي الذي يرقّي الناس ويدفع بهم إلى الأمام، لكن الطبيعة التي تجود علينا بخيراتها التي تسمح لنا بالبناء والتشييد والسفر وارتياد أحدث التكنولوجيات، وشراء الأسلحة الفتاكة التي لن تُستعمل، لا في حروبنا القومية التي لم تفض في النهاية إلا إلى سلسلة من الهزائم المتواترة، ولا في تحرير فلسطين التي عليها أن تتحمل تراجيديا المصائر السّيزيفية وحدها، بحمل صخرتها الأبدية والصعود بها عالياً، قبل أن تتدحرج معها من الأعلى، والعودة حثيثاً إلى السفح، ثم محاولة معاودة الكرة مرة أخرى، مرتين، عشراً، مائة، بل آلاف المرات بلا أفق حقيقي. أسلحة تصدأ في المخازن، والجديد منها يوجهه العرب ضد بعضهم البعض، في صراع مفتوح، لا أحد يعرف أفقه في النهاية. القاتل عربي والمقتول أيضاً عربي. ربما كان ضحايا حروبنا البينية أكثر من ضحايا حروبنا مع أعدائنا الخارجيين. هذا المعطى وحده يجعل الخوف من المستقبل مبرراً.
الأدهى ليس هذا. بل إنّ العرب أخطأوا عصرهم، بتخلفهم عن جميع الأمم، ولا يدرون أنهم في قاع البئر. يتفانون ويتمزقون بلا أفق أبداً. العرب اليوم في عمق السياسة، لكن أية سياسة؟ تلك التي تقدمهم، أم تلك التي تسحبهم نحو القاع والموت. سياسة وحيدة منتهجة عربياً، تلك التي تقتل كل يوم ما تبقى من إرادة جماعية وقومية. للأسف، كثيراً ما يكون رواد التقتيل القومي عرباً. وما دام الأمر يتعلق بالعربي، فليس الأمر مهماً عالمياً. النتيجة المدمرة واحدة. الخطابات السياسية المنتجَة في هذا السياق، تنضوي تحت إرادة المهيمن. لهذا أي خطاب أدبي أو إبداعي وفيّ لقيم الإبداع والخلق والحرية سيجد نفسه على الطرف النقيض من هذه الخطابات السياسية، أي في موقع العداء والموت المحتمل، أو الحرب الافتراضية ضده. لهذا، فالمبدع في العالم العربي لا يربي الكثير من الأوهام حول مسألة حرية التعبير في مجتمعات بنيت جوهرياً على النقيض من ذلك.
لا مهرب للمبدع العربي، بحر الموت وراءه، بحر الغرق أمامه، بحر النسيان مآله، فماذا يخسر في النهاية في وضع كهذا؟ لن يخسر إلا جسده أو بقاياه. لا قوة له إلا قوته الباطنية الإبداعية، وهو يعرف مسبقاً أنه غير مرغوب فيه أبداً. المبدع مكروه رسمياً لأنه ينغص على الذين يعيشون رفاهاً وهمياً على حساب كمّ من البشر يموتون يومياً بلا قيمة، لا لحياتهم ولا لأجسادهم. النشرات العربية تعج بالتفجيرات التي تأخذ في طريقها العشرات، والاغتيالات والاختطافات.
الدم العربي لم تعد له قيمة تذكر. النشرات الغربية والعربية أيضاً أصبحت تمر عليه كخبر عام. يجد المبدع العربي نفسه منخرطاً في الفعل المضاد للخطاب المهيمن أو ما يطلق عليه اليوم ريال بوليتك التي تعني ببساطة أن تقبلَ بما هو أمامك إذا أردتَ أن تستمر في الوجود والحياة. المنجز الأدبي العربي، في هذا السياق، ليس إلا جزئية صغيرة من هذا التضاد، لا لدولة عربية يتماهى فيها السياسي بالقبلي، والعصري بالتقليدي البالي، ولا لخيارات سياسية أثبتت عجزها في المائة سنة الأخيرة، لكن لعصر مضى مفرغاً من أي مشروع، ولآتٍ لا شيء فيه يبشر بأفق سليم، أو ببعض الخير.
وظيفة النصوص التي اختارت التحليل والغوص في التاريخ، لا تفعل شيئاً سوى أنها تعري وضعاً ليس اليوم مرئياً إلا من خلال بعض علاماته المعاشة ببؤس والتي تحتاج إلى تأمل يتخطى الأغلفة الناعمة والخشنة.
الوضع العربي اليوم مثل وضع الأرض التي فقدت كل إمكانية للمقاومة بعد أن امتلأت بثاني أكسيد الكربون والسموم التي تبثها المصانع الى درجة أصبحت تهدد الأرض نفسها وليس الحياة عليها فقط. إما أن يجد العرب، موحدين أو منفصلين لا يهم، الحلول الممكنة التي تنقذهم وتنقذ أرضهم وعرضهم ومالهم ومستقبلهم، وإما أن ينهار ما تبقى واقفاً حتى اليوم ولا يبقى من أفق ممكن إلا الجحيم النهائي والعودة إلى القرون الوسطى.
ويخطئ جداً من يظن من العرب أنه في منأى عن عاصفة الإفناء. إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه، سينتهي العرب تباعاً، وحدودهم ستنتهك بلا أية قدرة على الدفاع، وحليفهم المصلحي اليوم، سيجلب معه وسائل الموت الدمار عند الضرورة، لأن مصلحته اليوم هي أيضاً خدمة حلفاء استراتيجيين آخرين، ليسوا عرباً، بكل تأكيد.
واسيني الأعرج
قال الفاروق عمر إبن الخطّاب رضي الله عنه ” لقد كنّا أذلاء فأعزنا الله بالإسلام ، فإذا إبتغينا العزة بغيره ِ أذلنا الله ”
ولا حول ولا قوة الا بالله
…وكم نحن اذلاء من المحيط الى الخليج
ولا حول ولا قوة لنا ويعتقد الميسور فينا
بأن الصديق البعيد والعدو القريب سيعيد
لنا كرامتنا
أخي،واسيني،،تحية ومحبة،حاولت إنتفاضات الربيع العربي ،أن تخرج من الهامش ،إلى المتن، لنقرأ أنفسنا ،وتقرأنا أجيالنا القادمة،
فتصدت ،أدوات القمع ،والظلموالظلام بلا هوادة لأبرياء ،سلاحهم هتافهم ، وخرجت أبواق المرتزقة ،تنعتهم ،بعكس ما فيهم !
أنت أصبت في عنوان مقالك.
إعادة كتابة التاريخ , لامفر من إعادة كتابة التاريخ , لأننا لانصفه إلا بالجميل , بالطبع هذا مستحيل , لقد أخفوا عنا التفاصيل,لا بد أن نعود لتاريخ آلاف السنين نبحث عن الجذور, لعهد النبي موسى , نسأله عن وصاياه العشر, ومن هناك نسير.
الخروج من هذا المأزق التاريخي للعرب اليوم، لن يتأتى إلاّ على أيدي نخبة، مفكِرَة، مبدعة، صادقة، على قدر كبير من الذّكاء و الإنتماء، الإنتماء إلى الوعاء الحضاري العربي و الإسلامي، ولكن، تتميز في الحين ذاته، بالإنفتاح و الإطًلاع، نخبة قادرة على “إدهاش” الشعوب وقيادتها و تنويرها، و مدّها بالثقة والأمل…أين و متى و كيف تبرز هذه النخبة الملهمة؟
أصبت يا محترم تحليل واقعي لواقع هذه الأُمة،ومع ذلك تجد من يحرض على الانفصال والتفرقة في عالمنا العربي ،كل يفسر الدين والمصالح على هواه.
نسأل الله السلامة من الفتن ما ظهر منها وما بطن.