جريمة قتل الكاتب الأردني ناهض حتَّر أمام بوابة قصر العدل في العاصمة عمّان، ستظل تطرح الكثير من الأسئلة، أما ما يتكشف عنها فسيظل قادرًا على إثارة دهشتنا واستغرابنا إلى زمن طويل.
ولعل أبرز ما كشفت عنه التحقيقات، وتضمنه بيان أسرة حتَّر، هو ما جاء به التحقيق عن أن الجاني كان قد أمضى 4 سنوات في ساحات القتال في العراق مع الجماعات التكفيرية، ثم جرى تعيينه في وزارتي التربية والتعليم والأوقاف بعد عودته إلى الأردن.
إن وجود هذا القدر الهائل من التسامح الرسمي تجاه شخص كهذا يفتح أبواب الذاكرة على مصراعيه، لا لتأمّل الواقع الأردني وحده، بل لتأمل الواقع العربي الرسمي برمّته، منذ منتصف القرن الماضي حتى يومنا هذا.
لقد استطاع قاتل حتَّر أن يجد الحضن الدافئ الذي يستقبله بعد عودته من مواسم القتل، ويمنحه وظيفتين، هما في الحقيقة أفضل ما يمكن أن يمنح لمتشدد من وظائف، إذ هما ساحة رحبة (بعد توبته)، ليواصل عمله على جبهة أخرى، هي جبهة الداعية الذي يواصل ما بدأه وبصورة لا تقلّ تأثيرًا عن تلك الرصاصات التي كان يُطلقها في ساحات الوغى التي تنقّل فيها!
حين نستعيد الدَّور الذي لعبته الحكومات والاستخبارات خلال سبعين عامًا عربيا مضت، سنكتشف، في الأردن وحده، وببساطة، أن هناك مئات الآلاف من حالات سحق البشر، وبكل الوسائل، مع أن واحدا من هؤلاء البشر لم يحمل سلاحا كما حمل قاتل ناهض حتّر، ولم يرعَ الظلامَ والظلامية كما فعل قاتل ناهض حتر، ولم يكن آلة لجرّ الحضارة البشرية عنوة إلى الخلف واستحضار عصر الغاب، كما فعل قاتل ناهض حتّر.
مجلة مُعارضة، أو بيان حزبي، أو عدد قديم من جريدة قديمة لحزب سريّ، أو أي انتماء لتنظيم يحمل فكرًا تنويريًا مغايرًا، كفيلة بأن تزجّ الإنسان في أقبية التعذيب شهورا طويلة، قبل أن تلقيه في ظلمة السجون سنوات أطول، سالبة إياه حريته وأحلامه بحياة بسيطة ككل البشر، وقبلها أحلامه بأن يكون الوطن أجمل، أو تمنعه من السفر والعمل حتى لمجرد وجود شبهة.
كانت تلك الأنظمة طوال سبعين عاما صورة عن هؤلاء المتشدّدين الذين نعاني منهم اليوم، في رفضها الدامي لكل ما هو مختلف، وإقصائية أيضا، ومن المفارقة أن الذين مورست بحقهم كل أشكال العنف الرسمي، من أصحاب الفكر، في زمن الطوارئ والأحكام العرفيّة، ظلوا مسالمين في نضالهم بعد خروجهم من السجون، في حين أن من احتضنتهم الأنظمة الرسمية من التيارات الدينية، ورعتهم وجاملتهم، ووضعت في أيديهم أهم مجالات الحياة الاجتماعية المؤثرة، هم من تحوّلوا في غالبيتهم إلى عنفيين وإقصائيين!
كانت الأمسيات الثقافية تُحاصر، وتُمنع، ويُستدعى الذين فكّروا بإقامتها للتحقيق، سواء الإداريون أو الكتّاب أنفسهم، وتُمنع الكتب، وتُغلق أبواب المؤسسات التعليمية والإعلامية في وجوههم، وكانت هناك قوائم سوداء بأسمائهم. ولم يكن الأمر يتوقف عند هذا، فقد كانت الأبواب تقفل في وجوه كثيرين ممن يريدون الدراسة في الخارج، وإذا ما سنحت الفرصة للسفر، فقد كان أول شيء عليهم أن يفعلوه عند زياراتهم لأهلهم، أن يراجعوا دوائر المخابرات، بعد حجز جوازات سفرهم في معابر الوطن، وكأنهم مجرمون.
أشهرُ المساومات كانت تلك المساومة: بين أن يعمل الطالب مخبرا على زملائه، أو يُمنع من السفر لإكمال دراسته.
لقد فقد الآلاف فرص إكمال تعليمهم في الخارج، ولم يعوّضهم أحد أو يعتذر لهم أحد، لأنهم رفضوا أن يكونوا مخبرين، وحين نقول مخبرين، فإننا نعني ذلك، لأن الأنظمة لم تعمل على خلق بشر يحبّون أوطانهم، ويدافعون عنها حيثما كانوا من تلقاء أنفسهم، بل خلقت بشرا يخافون من هذه الأوطان، ويرتعدون كلما فكروا بالسفر إلى الخارج، أو فكروا بالعودة، ووقفوا خائفين أمام رجال الأمن في معابرها البرية وقاعات مطاراتها.
.. وحتى بعد أن حدثت تلك التحوّلات، التي أطلقوا عليها اسم (التحوّلات الديمقراطية) وبدا أن هناك انفراجًا ما قد حدث، وأُخليت السجون من أصحاب الرأي، تواصلت الجرائم بحق البشر، بعد أن تم نشر الأجهزة الأمنية في كثير من المؤسسات المدنية، فبقي بابُ العمل مغلقا أمام كثير من الناس، ولكن بدل أن يأتي قرار المنع من السلطة، أصبح يصدر عن مندوب السلطة، المدير، في هذه المؤسسة أو تلك.
وكما في الوظائف، بعد هذه التحوّلات، تواصل الأمر في المؤسسات الإعلامية الرسمية، إذ يمكن أن ترى شخصية ما استضافتها كل المنابر الكبرى خارج الوطن، لكنها لم تظهر أبدا لا صوتا ولا صورة في الإذاعات والتلفزيونات الرسمية، التي هي دائما إذاعات وتلفزيونات هزيلة وشاحبة، ترتدي ثيابا فضفاضة، من الغرور، والاعتقاد بأنها قادرة على أن تحاصر هذا وترفع ذاك.
لن نبتعد عن الحقيقة كثيرًا، إذا ما قلنا إن هذه القوائم السوداء لم تزل موجودة، وأن الفرص أمام كل من حمَل، أو يحمل اليوم من شبابنا أفكارا مُحبَّة للبشر والتقدم والعدالة، مُقفلة، وأن عليهم أن ينتظروا دوْرهم في قوائم المتقدمين للعمل، وقد لا يصلهم الدّور قبل موتهم، في حين أن شخصا مثل قاتل ناهض حتّر، لم يكن عليه أن يقف في الطابور، إذ حملته المؤسسة الرسمية على أكفّها، ومنحته، لا وظيفة واحدة، بل وظيفتين، ليواصل مهمّته كذئب طليق، في عقول أطفالنا وشبابنا وأولئك الأميين البسطاء الذي ما زالوا يظنون أن كل كلام يصدر عن شيخ مسجد أو صاحب لحية، أيّا كان مستواه، هو كلام من السماء لا جدال فيه.
لكن ما يدعو للتأمل أكثر هو أن أولئك الذين كانوا يتفنّنون في تعذيب الناس وسجنهم ومنعهم من العمل والسفر والنشر، تكشَّف فيما بعد أن اثنين منهم، وصل كل منهما إلى مرتبة مدير لدائرة المخابرات، كانا ضالعين في الفساد، وافتراس الوطن بكل الوسائل، ما أدى لأن يوضعا خلف قضبان المحاكم بتهمة سرقة الملايين! أما الأدهى، فهو انقلاب بعض هؤلاء المدراء، فإذا بهم بعد أن كانوا مُعذِّبين للبشر ومطارِدين لهم، ينقلبون، فيتبنّون فكر ضحاياهم، والصورة الوطنية لضحاياهم، ويتحولون إلى مناضلين، وقادة للمعارضة!
وبعد:
جريمة قتل ناهض حتّر، تثير الكثير، لأن ناهض نفسه، كان قد سُجن وعُذِّب وطُعِن أيضا، وكان من المهم أن تختلف مع ناهض، بالحوار، أو تتفق، لأنك إن لم تفعل ذلك، وتتحلّى بذلك، ستكون صورة طبق الأصل عن قاتله.
إبراهيم نصر الله
ما تفضلت به مطابق للواقع، ونحن اليوم حكومة ومجتمع ،نحصد ما زرعنا ،طيلة عقود !
غياب الثقافة العلمية ،والوصاية الدينية على المناهج ،ساهم في تغذية الظاهرة الداعشية،
إعترفنا أو أنكرنا، ما العمل ؟ تنمية التفكير بدل النقل والتلقين ،والتمتع بممارسة الحقوق،
والواجبات بدل الكلام الأجوف عنهما !.
اتفق مع الكاتب الذي نحبه ونقدره أن قتل حتر جريمة بل إن القتل هو أبشع جريمة عرفتها البشرية حين تكون بسبب خلاف في الرأي لكني أحب أن أذكر أستاذنا الكبير ابراهيم نصر الله أن حتر نفسه وكل الذين يدورون بفلكه قد هان عليهم جرائم أعظم من جريمة قتل حتر حين وقفوا في صف القاتل بشار ذاك الطاغية الذي استولى على السلطة بقرار فصل على مقاسه بسرعة البرق دون إرادة من الناس .
واستمرت جمهورية الخوف وسلب إرادة الناس وتزوير إرادتهم إلى أن انتفض أهل درعا انتفاضة سلمية فماذا فعل بشار المقاوم بهم ؟ قتل واعتقال وتعذيب واستمر على ذلك ستة أشهر وما زالت هبة الناس سلمية يريدون بعض حقوقهم .
ثم عسكروا الثورة لتسويغ قتل الناس وذلك قبل استيراد داعش وأخواتها وقبل لجوء يشار لإيران وروسيا وحزب الله
والنتيجة أن بشار المقاوم أضحى مجرد شرطي سير ينظم حركة طيران الدول في بلده .
ولا تنس أستاذنا الفاضل إبراهيم أن النظام السوري هو أول من تعاون مع التكفيريين المجرمين حين كان يرسلهم إلى العراق عبر حدوده .
سامحني أيها القامة العظيمة أن استغرب منك ومن كل الثوريين حين يقفون في صف القتلة ثم يلومون قاتلا من الصف الآخر.