زمن الهزيمة

حجم الخط
12

بريطانيا وفرنسا مشغولتان بالانتخابات، في بريطانيا اكتشف الناخبون أنهم يعيشون في زمن بلا زعامة، أما في فرنسا فإن عليهم اختراع زعامة ولو من الركام. وفي لبنان تسعى الزعامات المتداعية إلى سن قانون انتخابي مصنوع على قياسها يحول الانتخابات الى ما يشبه التعيين. اما في بقية أنحاء المشرق العربي فلا زعامات ولا انتخابات، بل قرع طبول يرقص على إيقاعها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رقصة النهب الأخيرة لثروات الخليج العربي، قبل ان تتلاشى الثروة في العدم.
دونالد ترامب هو الراقص الوحيد في الحلبة، ورغم أن رجل الأبراج والصفقات هو نموذج للزعامة المتهالكة في عالم اليوم، فإن الرجل وجد في العرب ضالته. فبعدما أفرغ قاموس شتائمه العنصرية على العرب والمسلمين خلال حملته الانتخابية، يتحول اليوم إلى الحَكَم على طاولة المقامرات العربية، يفرض الخسارة على جميع اللاعبين، ويأخذ كل المال.
الميليونير الذي يحكم العالم بلغة مبسطة تشي بالبلاهة، هو «أمل» الجميع، في مشرق عربي فقد معنى الأمل. ويريد زعماؤه البقاء على طاولة المقامرة الأمريكية بأي ثمن.
ماذا يعني البقاء على الطاولة؟
هذا هو السؤال الذي يطرحه الصراع المتجدد في الخليج العربي، فهناك ما يشبه القرار باقفال الساحة الخليجية. والمسألة لا تتعلق بجوهر المطلب الامريكي باقفال المدى العربي والاستعداد لبناء تحالف تكون إسرائيل جزءا منه، بل بكيفية تطبيقه، ومن يقود العملية.
الساحات الأخرى أقفلت بالدم: العراق يتخبط في دماء الموصل ومآسي الناس وهول الخراب الذي لم يعد يعني شيئاً لأحد. كأن الموت العشوائي صار تقليداً مكرراً لا دلالة له.
سوريا مثقلة بالحروب الوحشية، التي أخرجت الشعب السوري من الحلبة، وحولت سوريا إلى عنوان زمن اللامبلاة وادارة التوحش.
مصر مقفلة بالانقلاب الذي قتل روح ثورة يناير، وحول ميدان التحرير إلى ذاكرة غائمة في ضباب الخوف.
لبنان الذي كان في الماضي القريب يضج باحتمالات التغيير، ومكان الأسئلة، وحاضنة الأفق الفلسطيني، اقفلته زعامات الطوائف التي استبدلت الاستبداد المخابراتي السوري باستبداد نظام الحرب الأهلية.
فلسطين غائبة عن الفعل والمبادرة، تدفع ثمن خمول السلطة وعجزها واستسلامها للقدر الامريكي من جهة، وثمن الخطاب الإخواني الذي سرق فلسطين من قضيتها وحولها إلى امارة غزة المكبلة بالحصار، من جهة ثانية.
كل الساحات مقفلة، ولم يبق سوى ساحة الخليج، التي تبدو مفتوحة ظاهرياً، بسبب التناقضات بين أطرافها، لكنها في الواقع مقفلة بنيوياً بسبب طبيعة الأنظمة الحاكمة، وهشاشة الثروات الهائلة التي لا تصب إلا في التبديد وفي عظامية تصنعها أبراج من الرمل.
اكتشف الروائي الكبير عبد الرحمن منيف الاسم، وصنع المسمى في روايته الكبرى «مدن الملح».
صاغ منيف روايته من عنوانها، فكتب أبجدية الملح، واعاد صوغ تاريخ الهزائم الآتية، كأنه كان يقرأ في الماضي علامات الزمن المنقلب. ولدت كلمات منيف من آلام بداية عصر النفط والهزيمة، ورسمت مناخات المأساة التي حولت متعب، بطل الرواية، إلى شبح يطير على ناقته التي فقدت أرضها.
في زمن مضى، أي عندما تراءى للعرب في مرحلة عبدالناصر انهم يستطيعون أن يصيروا شعوباً، كان المتظاهرون في بيروت وعمان ودمشق والقاهرة يهتفون «بترول العرب للعرب». لكن الزعامة الناصرية سقطت في هزيمة حزيران/يونيو، لأنها أسلمت نفسها للمخابرات والاستبداد اللذين جعلا من الجيش المصري ركاماً في الصحراء، ومع سقوطها بدأت عملية انزياح السياسة نحو الغوص في آبار النفط.
لم يستخدم العرب ثروتهم إلا مرة واحدة في حرب تشرين/اكتوبر، لكن ثمن هذا الاستخدام كان باهظاً. الحرب خسرها العرب في السياسة، والبترول أفلت من أيديهم التي بالكاد لامسته قبل أن يتخذ مسارات أخرى، ويحوّل أرض العرب إلى ملعب للموت والقيم الظلامية.
واليوم يبدو المشرق العربي في لعنة العلاقة بين النفط والدم. أحمر الدم وأسود النفط يمتزجان في حلبة تجر المنطقة خلف عربة الموت.
«نحن خلف العربةْ/ قد تعلقنا وعلقنا قناديلَ ولكنْ/ من زجاج البلد المخزن حيثُ المأدبةْ/ حلقةٌ من زعماء البدوِ/ في خانٍ على النهرِ/ سكارى/ يحكمونَ الساعةَ المنقلبة».
كانت تلك زيارتي الوحيدة إلى بغداد، وكان ذلك زمن رئاسة أحمد حسن البكر، كان صدّام يعد نفسه لخلافة الرئيس بصفته السيد النائب، وكانت المناخات الثقافية في المدينة مليئة بأشباح الخوف. هناك التقيت هادي العلوي الذي ستحفر شخصيته الفذة وتواضعه عميقاً في وجداني، كما التقيت شاعر العراق سعدي يوسف الذي أسرتني شخصيته التي تمزج الشاعر بشعره بحيث يصعب التفريق بينهما. في تلك البغداد التي كان النظام فيها يستعد لوأد ثقافتها تحت رماد عبادة القائد، وفي أحد مطاعم شارع ابي نواس، ألقى سعدي تلك الأبيات فارتسمت علامات الهلع والخوف على وجوه المثقفين الجالسين، وكأنها علامات موتهم التي رفضوا أن يروها.
وصف سعدي عربة الموت بصوته المخضّب بالعرق الزحلاوي الذي أكثر من شربه، كعادة المثقفين العراقيين في ذلك الزمن، كأنه كان نبي النهايات.
ملح عبد الرحمن منيف يمتزج اليوم بعربة سعدي يوسف ليرسما معاً واقعاً وقع على أرض التاريخ، فبدا أشبه بعاصفة تفضح ما تبقى من ثقافة العرب، التي صارت اليوم ملعبًا لأنبياء كذبة يدافعون عن مصالحهم المادية الصغيرة بكلمات كبيرة.
هل ترتسم اليوم العلامة الأخيرة للعتمة؟ سماء العرب مقفلة بسحاب النفط الذي يبتلع النجوم، لن نجد نجمة واحدة قبل ان ينتهي هذا السحاب الأسود، ونهايته لن تكون أقل آلاما من بداياته.

زمن الهزيمة

الياس خوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول إيدي-سويسرا:

    لم يتحقق من حلم الوحدة العربية إلّا ما حققته الشعوب في غفلة من حكامها.
    لم يُقصر الحكام يوماً في زرع أسباب الفرقة بين الشعوب وهي زراعة يُنصح بها في تطويل عمر الكرسي.
    بفضل إجماعها على التعاون في القليل الدي إتفقت عليه, إستطاعت شعوب لاتطيق بعضها ولا تتكلم لغة غيرها إنشاء كيان موحد هو الأتحاد الأروبي.
    هل أدنب عبد الناصر حين حلم بالمستحيل ؟
    أليس التطلع للنجوم أنبل من الأنخراط في سباقات الوحل؟
    ألا نقر لمن حلم بالنجوم بشرف المحاولة وأجر الأجتهاد؟
    هل مصير الحلم إما التحقق أو الأعدام ؟
    هل نرمي الرضيع مع ماء الحمّام ؟
    كل التقدير والمحبة لك رفيق إلياس

  2. يقول Ossama Kulliah أسامة كليَّة سوريا/المانيا:

    يا أخي طارق الخطيب, , معلومات قيّمة!. لقد أصبح اليوم واضحاً أن حافظ الاسد تخلى أو أعطى الجولان لإسرائيل حتى يتسنى له السيطرة على دمشق, وبذلك أصبح ضمنياً صديقاً لإسرائيل وأمريكا. والمشكلة ليست هنا فقط بل لقد أراد لسوريا أن تكون مزرعة لبيت الأسد ونظامهم وأعوانهم. ودون أن ننسى أن هذا النظام هو جزء من الاستبداد العربي وهذه الأنظمة الفاشية والقمعية, فإن عنوان هذا النظام الأسدي الفاشي هو الخيانة والإجرام ولاستبداد والمذابح الجماعية وليس فقط في سوريا بل في لبنان أيضاَ وليس فقط ضد الشعب السوري بل الفلسطيني واللبناني أيضاً. ولنا الله ومالنا غيرك ياالله.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية