زهير أبو شايب: مطر الشعر السرّي

حجم الخط
0

في سنة 2011 نال الشاعر الفلسطيني زهير أبو شايب جائزة محمود درويش، بإجماع لجنة التحكيم، التي تشرفتُ يومئذ بعضويتها. كذلك شرّفني ـ وأبهجني، شخصياً، إزاء شاعر كبير وصديق عزيز وقريب ـ أنّ اللجنة كلفتني بكتابة نصّ نقدي، وتعريفي، حول تجربة أبو شايب.
اعتبرتُ آنذاك، كما أعتبر اليوم أيضاً، أنّ أبو شايب ينتمي إلى قلّة قليلة من الشعراء العرب المعاصرين، الذين امتلكوا بصمة أسلوبية رفيعة الأداء وناضجة الأدوات. وهذه لا تعزّز صوته الخاصّ بقوّة بين أقرانه، فحسب؛ بل تفضي كذلك إلى إطلاق تجربة ثرّة لا تكفّ عن الارتقاء، وترسّخ صوتاً شخصياً يتميّز بقوّة داخل المشهد، رغم أنه لا ينفصل عن خيرة تقاليد الكتابة الشعرية العربية، ولا ينعزل عن تفاعلاتها في آن معاً.
فهو، من حيث خيارات الشكل، لا يزال يعتمد صيغة التفعيلة، ويلحّ على استكشاف طاقاتها الإيقاعية التي لا تنفد، ويتوصل إلى نتائج باهرة جديدة ومتجددة، لعلّ بين أبرز فضائلها أنها لا تعيد ترجيع أصداء تجارب الروّاد، من جانب أوّل؛ ولا تقتفي أثر المعلّمين الكبار المعاصرين، من جانب ثانٍ. لكنه، في السنوات الأخيرة بصفة خاصة، جرّب كتابة قصيدة النثر، وأعطى في هذا الشكل الشاقّ قصائد بديعة، أثبتت أنّ اشتغاله على استكشاف طاقات النثر الإيقاعية لا يقلّ حساسية عن مراسه في تطويع مخزون موسيقى الوزن.
والنبرة الفلسفية تشكّل، على صعيد المحتوى والموضوعات، علامة فارقة في نتاج أبو شايب، ويندر أن نجد في الشعر العربي المعاصر هذا الإغراق الشامل في مشهدية ميتافيزيقية ـ نفسانية؛ قائمة على موقف الشاعر من الوجود، وعلى تصالح، أو تأزّم، علاقته بعناصر محدّدة في شبكات ذلك الوجود: الجسد، الظلّ، الطبيعة، الكون… وإذا كان الشاعر يستعيد بذلك تراثاً شعرياً مُفتَقداً كثيراً هذه الأيام، فإننا هنا أيضاً لا نشمّ رائحة شعراء روّاد عكفوا على التأمل الفلسفي، أو جعلوه سمة طاغية في قصائدهم. ومن جانب آخر، ليس بين غوايات أبو شايب أن يعيد إنتاج لائحة الشخوص الأسطورية التقليدية، التي درج الشعر العربي المعاصر على استلهام مدلولاتها ورموزها.
موضوعاته ليست بالصوفية، على النقيض مما قد توحي به اقتباسات هنا وهناك، من النفري وابن عربي مثلاً؛ ولا ينهض معجمه الشعري على ما بتنا اليوم نعرفه، وربما نحفظه عن ظهر قلب، من عدّة لفظية تصف الوجد الإشراقي، والتوهّج النبوئي، والانزياح الحلولي، والرؤية الحدسية، وسواها. الشاعر الناطق في قصائد أبو شايب بطل نيتشوي بالأحرى، مستغرق في معادلات القوّة إزاء الجسد والظلّ والطبيعة والكون، الصدفة والحلم والماضي، الكلام والصمت والذاكرة، العزلة والصداقة والحرية. أقدامه عالقة في طين أرضي يسمّيه صلصال الوجود، ورأسه يتطامن نحو الأعالي، مكبّلاً بظلّه، أسيرَ خُطاه التي تردّه إلى ماضٍ سحيق.
ومن اللافت أن أبو شايب شاعر مقلّ عموماً، إذْ أصدر خمس مجموعات شعرية فقط، هي «جغرافيا الريح والأسئلة»، 1986؛ «دفتر الأحوال والمقامات»، 1987؛ «سيرة العشب»، 1997؛ «ظلّ الليل»، 2011؛ و»مطر سرّي»، مجموعته التي صدرت قبل أيام. لكن هذه المجموعات كانت كافية لكي ترسّخ صوته المنفرد على النحو الذي نعرفه اليوم، أو نلحظه من أوجُه تجريب وبحث وتطوير تضيفها القصائد الأخيرة.
وإذا كانت فلسطين لا تحضر في معظم قصائد أبو شايب على نحو مباشر أو سياسي أو خطابي، ولا على نحو ملحمي أو أسطوري أو تجريدي؛ فذلك لأنّ ما يحضر، في المقابل، ويمتزج في صياغات مركبة آسرة، هو قِيَم الوجود الفلسطيني ذاته، في جوانبه الإنسانية والشعورية والحضارية والإبداعية، وفي ما تستولده هذه من ثقافة مقاومة وحسّ بقاء ونزوع ارتقاء، على أرض الفلسطيني، في تاريخه وجغرافيته وفضائه، وداخل كينونة وطنية عبقرية غير منفصلة عن أبعادها الكونية. وهذا ما ظلّ الراحل الكبير محمود درويش يحثّ الشعراء الفلسطينيين الشباب على مقاربته، ورأى في تجربة أبو شايب مستوى عالياً من تحقّق ذلك المسعى الجمالي والثقافي الكبير.
يبقى أنّ المجموعة الأخيرة تستحق وقفة تثمين أخرى مطولة، ومفصّلة، بالنظر إلى أنها تستجمع الكثير من شعريات أبو شايب التي سبق ذكرها هنا، وسواها كثير؛ على غرار ما قصده إدوارد سعيد حين تحدّث عن الأسلوب المتأخر، حيث تتجمع أساليب الفنان السابقة في حصيلة تركيبية جديدة. هي، كذلك، مجموعة مكرّسة، بأسرها، لموضوعة قصيدة الحبّ، الأمر الذي يدفع بالقصائد إلى منطقة تحدٍّ شاقة، تقتضي استكشاف بواطن الشعور الأعمق، والجماليات الأعلى، والأداء والأدوات الأرفع.
ولعلي، هنا، أقترح هذا النموذج، من قصيدة «أمس ارتعشتُ كشتلة الليمون»:

عرفتِ الآن معنى أن تجيئي
في الزمان، وفي المكان، وبالبراءة ذاتها،
وتُفاجئي مطراً لأولَدَ؟
هل عرفتِ الآن؟
ميلادي تأخر ريثما تأتينَ
والماضي تأخر خطوتينْ.
ها أنتِ غيّرتِ الحكاية كلّها
وأضعتِ قلبي مرّة أخرى،
ولم أسألكِ أينْ؟

زهير أبو شايب: مطر الشعر السرّي

صبحي حديدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية