كان الـ «بوستر» على الحائط في الممر الطويل جذاب جدًا. أوقفني أنا وأوقف كثيرين. زرعنا مثل مسمار على الصورة. زينات صدقي نائمة على بطنها تتكلم في التليفون باحثة عن عريس. تُملي مواصفاتها المُبالغِة قليلا إلى مُحدثها، هذا فقط. أكملتُ اللقطة في ذهني وأنا أتأمل الـ»أفيش». الطبقة الحادة من صوت زينات مع الكلام السريع ، وعريس سيأتي متأخرًا، ولن يكون جان كما تتمنى؛ اسم العرض «آنسة ولا مدام؟»، مكتوب إنه نتاج ورشة حكي، العرض تُخرجه سندس شبايك.
صديقتي غادة كانت واحدة من المُشاركات في ورشة الحكي التي أقيمت منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي مع مؤسسة «بُصِّي». عبر محادثة هاتفية في الليل، كانت غادة تحكي لي عن التمارين. يطفرُ الأسى من الحكايات التي تحكيها البنات. «في العرض هتعرفي كل حاجة»، هكذا كانت تقول إلى أن رأيتُ البوستر. الآن المسألة أصبحت أكثر إغواءً. هي زينات صدقي شخصيًا تدعو الناس كي يتفرجوا على شيء له علاقة بسؤال الزواج. اللعنة التي تطارد الفتيات والنساء في مصر، وفي العالم العربي بالطبع، لا هُن مرتاحات فيه. ولا هن هانئات من دونه. تتحقق المرأة كطبيبة، عاملة، فنانة، لكنها يجب أن تشرح لمُحدثها وضعها الاجتماعي. في البطاقة أيضًا وفي جواز السفر، كلمة «أستاذة» كلمة حديثة ولا تعترف بها المؤسسات الرسمية.
السؤال نفسه يبدو عاديًا، لكن حمولته النفسيّة ثقيلة وجذورها في قلوب البنات تصل إلى البحر. حين دخلنا إلى العرض، على مسرح المعهد الفرنسي، في اليوم الموعود، كانت الدنيا زحاما. وشخصيًا توقعتُ أن يظهر شبح زينات صدقي من عتمة الخلفية، هي أيضًا مازالت محبوسة في أغنية واحدة غنّتها ذات يوم. ولم تتصور أن تتعلق بها بالجنون هذا. زينات صدقي في الذاكرة ماتزال تبحث عن عريس، وإلا لما لجأت إليها دعاية العرض. على الباب استقبلتنا المُنسقات، كُنْ يُزغردن، ويتوجهن بالحديث خصوصًا إلى الرجال «عقبالك يا عبد الرحمن»، يسخرن ويقلبنْ السخرية إلى الطرف الآخر، الآن عبد الرحمن أيضًا عليه أن ينتظر العَدَّلْ.
«ليه ربنا خلقنا بسيلوفانة؟»، تتحدث جيهان في مونولوغ طويل عن تجربتها مع الختان. في الصعيد مازال الأمر يُحارَب، لكنه في القاهرة مازال يُمارَس كثيرًا في الخفاء، «الألم اللي حسيته كان من الشعور بالذنب، كنت فرحانة بالاهتمام اللي أخدته يومها، محاولتش أسأل إيه اللي حصل فيّ». تجربة تُسرَد ثم تصل إلى لحظة ترقد فيها البنات على الأرض، ويفتحنْ أرجلهن للمجهول. «بلاش تاكلي موز أو خيار أو آيس كريم»، كانت هذه نصيحة غادة، حين تعلق الأمر بدور آخر تقوم به، دور الجارّة، هكذا هُن النساء يحاربن بعضهن كي يخسرن جميعًا، لكن هُنا شيئا يُثير الضحك رغم كل شيء «ليلة الدخلة اعملي نفسك مش فاهمة حاجة !».
الضحك يأتي من تلاقي النقيضين ربما، التراجيديا والملهاة. لم تقل الأفلام القديمة لنا أن زينات صدقي كانت امرأة وحيدة تبحث عن الحُب. فقط جعلتنا نُلاحق «رتمها» السريع، بينما نحن نعرف ذلك عن هند رستم شقيقة زينات في الفيلم الشهير «ابن حميدو»، في الأخير هذه الجميلة سيقع في حُبها الجان، ويدللها كما تمنّت طويلا.
لكن هل كانت هند رستم سعيدة فعلا؟ أعني في الفيلم أو في الحياة لا فرق. نسمة صاحبة الشعَّر الذهبي الطويل، كانت غاضبة الحكي الأولى. تفجّر الغضب بعنف أكبر في العرض الثاني بعدها بساعة. نسمة غاضبة لأنها لا تعيش كما تتمنى. هي مُراقبَة من الناس، ومن الذاكرة القديمة غير واضحة المعالم، بوحها قليل ويبدو ناقصًا أو مبتورًا.
بين هذا وهذا تقف راما، بالشعَّر القصير المُربِك، «يوم ما قررت أحقق أمنيتي وأقص شعَّري كُنت عارفة إني هدفع التمن، الناس في الشارع أوقات يقولولي يا واد يا بت»، رشا كانت في مكان آخر، «عُمري ما حلمت إني ألبس فستان أبيض وأتزّف، لكني مطالبة بتقديم تقرير سنوي ليه ملبستهومش»، الذاكرة المصرية لا تنسى زواج البنات ولا تُريد أن تنساه، إنه ليس فرح العُمر لأحد كما يُشاع.
من أجل الزواج كانت جيلان مُطالبَة مُبكرًا بإخفاء كل هذا الدلال، حين رقصت على المسرح في أقصر من دقيقة كانت تستدعي صبا فاتن، قالت لها ماما، «ارقصي لجوزك بعد الجواز»، ورفضت اعتبار الرقص الخفيف هذا نوعًا من التمرين، في الغُرف المُغلقة للنساء يمكن للأشياء العادية أن تكون ممنوعة أيضًا.
ليس فقط الأشياء، لكن الأدوار كذلك، غادة كانت تائهة بين دورين. تقول في شكل القصيدة «طول عمري شايفة نفسي حورية بحر، لما كبرت عرفت إن الناس شايفاني سمكة بلطي، أنا مش عارفة أنا حورية بحر ولا سمكة بُلطي ؟»، صفق المسرح، هل هذه أزمة مُشتركة بين الرجال والنساء؟
كانت زينات صدقي جميلة حقًا، عندها صوت هادىء يتكلم في شؤون الحياة العادية بلا هرولة، ونظرة حزينة تنظر إلى العمق غصبًا عنها.عبر عشرات الصور لها على الإنترنت، والقليل جدًا من السيرة، تظهر زينات كسرّ كبير، لا يحاول أحدُ أن يكتشفه. سرّ سلَّم نفسه لسجن الصورة الواحدة، كأننا لم نعرف هذه السيّدة أبدًا، نحن أيضًا تسمّرنا على الـ»بوستر»، ضحكنا في مواضع الضحك، بينما ظلّت امرأة تُغني بشجاعة على خشبة المسرح، راثية حلم قديم سيظلّ أشهر أغنياتها.
القاهرة – أريج جمال