سؤال غربي

منذ فترة سألني قارئ إنكليزي، عن رأيي في روايات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، هل كانت ستكون أفضل أم أسوأ لو أنها كتبت الآن؟
أيضا سألني قارئ آخر، لا أعرف من أين، لكنه غربي، إن كنت أشعر برهبة ما حين أقرأ رواية كلاسيكية مثل: «يوليسيس»، و«ذهب مع الريح» أو «الحارس في حقل الشوفان»، ومنذ يومين سألتني قارئة إنكليزية، عن تخيلي لشكل كتابتي، إن كنت موجودا، وكتبت في فترة الخمسينيات والستينيات، من القرن الماضي؟
حقيقة، هذه أسئلة تتشابه كما هو واضح، وتدور حول محور واحد، هو محور المقارنة بين الكتابة بالحبر الكلاسيكي القديم، والحبر التقني الجديد، الذي نكتب به اليوم رواياتنا، إن صح التعبير. أسئلة عن الماضي والحاضر، ويمكن بسهولة أن نستخرج منها أداة الحنين، أو سلطته، تلك التي ترافق الناس في أي وقت وأي مكان. دائما هناك ثمة عالم قديم جميل، وعالم معيش بشع، نزينه بتخيل القديم، الذي كان حاضرا لدى البعض، وبشعا أيضا في وقته، والذين يشاهدون أفلام السينما القديمة التي صورت في منتصف القرن الماضي، وقبل ذلك، ويشاهدون الشوارع النظيفة، شبه الخالية من الضجة، والسيارات التي يقودها سائقون يرتدون حللا براقة، ويفتحون الأبواب وهم منحنون، لتركب النساء المتأنقات، أو ينزلن، وغير ذلك من العادات التي ربما كانت سائدة وانتهت، يرددون: الزمن الجميل، ولن يتخيلوا أبدا أن الزمن ذلك، لم يكن جميلا لدى بوابين، يحرسون القصور، وطهاة يرصون موائد العشاء، وعمال يستهلكون طاقاتهم في الشمس ليحفروا ويردموا، ومتسولين ومشردين، يجوبون تلك الشوارع، بحثا عن رزق.
أعود إلى مسألة الكتابة القديمة والجديدة، وتخيلي لكتابتي إن كانت في زمن الكتابات التي ذكرت أو قبل ذلك وبعده. بالطبع لكل زمن أدواته، بعض الأدوات، تستهلك، وتمحي بانقضاء زمن ما، بعضها يبقى ليرافق الكتابة إلى أزمنة تأتي، وبعضها يتم اختراعه في كل زمان، وهكذا، تجدد الكتابة نفسها، مع الاحتفاظ بمكتسباتها الجيدة التي ربما حققتها، في أزمنة سابقة. ويبدو ذلك واضحا في الروايات التي تستلهم التاريخ، حيث يقفز الكاتب إلى زمن بعيد، محاولا استنطاق أدواته، ووصف الحاضر المعيش آنذاك، وأعتقد جازما أن كاتب اليوم، مهما اجتهد في روايته التاريخية، وألبسها عتاقة الماضي في كل شيء، يظل ثمة شيء ناقص، هو الحياة التي لم يعشها الكاتب، والمجتمع الذي لم يضمه كما ضم كاتبا آخر، عاشه وتنفسه، وكتبه في أعمال عدت كلاسيكية الآن. لذلك سأتخيل نصا حداثيا لماركيز مثل: «ذكرى غانياتي الحزينات»، كيف كان سيكتب لو جاء في الفترة التي كتب فيها: «في ساعة نحس»، مثلا؟ قطعا سيكون مسرح الكتابة، بلدة صغيرة، فيها بيوت من الخشب، وقرويون بسطاء، وأقاويل تتناقلها الألسنة، وكنيسة مقامة على تل، وراع للكنيسة، يتحكم في سلوك السكان وأمزجتهم، إلى حد كبير. سيكون بطل الرواية التسعيني، الذي يذهب بثبات، لمراقبة نوم الغانية الصغيرة، في بيت تملكه امرأة، تتقاضى الثمن، سيصبح قرويا، متوجسا، يتلفت بحذر، قبل أن يذهب في مشواره اليومي، تصبح صاحبة البيت، امرأة مراقبة من الجميع، وتتحاوم سيرتها في المكان بلا توقف، والفتاة النائمة، سينحدر بها الحكي، لتوصف بأنها قذارة، ليست أصلا من القرية، وإنما جاء بها الطريق.
هنا تنتفي حرية اختيار الحياة داخل النصوص، تمحي كل المكاسب التي نالتها الشخصية الروائية، لتوظف حسب معطيات الزمن الجديد، حيث لا مراقبة، ولا سيرة تلاك، في مدينة لا يعرف الجار فيها، ما اسم جاره، ولا تلفت الفضيحة، مهما كبرت، إلا أنظار القليلين. ماركيز من الذين عاصروا عقودا عدة، بوصفه كاتبا مستمرا في الكتابة، ولم يتوقف إلا قبل سنوات قليلة قبل وفاته، لذلك، كان يحمل قلما معبأ بحبرين، حبر كلاسيكي قديم، وحبر تقني حديث، الحبر الذي أركب أبطاله القوارب الصغيرة في الأنهار، والبحار الهائجة، وذلك الذي أركبهم الطائرات النفاثة، وأعتبر كتابه السيري: عشت لأحكي، وذلك الذي كتبه الإنكليزي جيرالد مارتن بعنوان «سيرة ماركيز»، من أقيم الكتب التي تجيب عن سؤال الكلاسيكية والحداثة.
بالنسبة للكتاب العرب، يبدو الأمر مختلفا قليلا، فالتطور موجود بالطبع، والكتابة تواكبه، لكن تظل نمطية الوصف سائدة عند كثيرين، لم يتخلوا عنها، تظل القرى، إن كانت مسارح للكتابة، هي نفسها القرى التي وصفت في زمن الشرقاوي وطه حسين، وتوفيق الحكيم، على سبيل المثال، على الرغم من أن القرى الآن، لم تعد تلك الحبلى بالنميمة، ومراقبة سكانها لبعضهم، واختراع الفضائح، أو انتزاعها بالقوة، من جيوب الكتمان. لقد دخل التلفزيون القرى منذ زمن ليس قريبا، وجاء بتسلية بديلة عن مضغ الأقاويل، دخلت الدراما، وبرامج التوك شو، دخلت الإنترنت، وتقنية الهواتف المحمولة، وأمكن لقروي، في أي ريف، من أي بقعة في العالم أن يحتك بالآخرين، يطرح أسئلة، ويدلي بإفادات، وينشئ له ولعشيرته صفحات مطولة على الإنترنت، يكتب فيها كل شيء. القرى إن كتبت اليوم، يجب أن تكتب هكذا، قرى كونية، وليست محلية في بلدانها.
بالنسبة لكتابة المدن العربية، وألاحظها الآن، في كتابات الشباب، أو أولئك الذين من أجيال أقدم وما زالوا يكتبون، فلا بد من كتابة علامات المدينة الآن، في الماضي كانت العلامات مثلا: محطة للكهرباء يعمل فيها البطل، مكتبا للبريد، يستقبل الرسائل ويرسلها، سينما تعرض أفلاما عربية وأجنبية، ويغشاها الأبطال من حين لآخر، وربما حديقة خضراء، تمنح الرومانسية حضورا شيقا، أما الآن، فلا بد من علامات أخرى، أهمها مولات التسوق العملاقة، وأماكن بيع الهواتف المحمولة، وكافتيريات متحررة، تضم اللقاءات العاطفية، وهكذا، وقد كنت من المستفيدين من هذه الأدوات الحديثة، التي ستصبح قديمة يوما ما، في كتابة أجيال ستأتي، وتتخيل زمننا القاسي، المر هذا، زمنا جميلا، يتمنى المرء لو عاش فيه.

كاتب سوداني

أمير تاج السر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية