للوهلة الأولى قد يبدو هذا العنوان كما لو أن خطأ مطبعيا استبدل فيه حرف الدال بالضاد، فالمقولة المأثورة هي حضارات سادت ثم بادت، وهي شأن سواها من المقولات المتداولة على عواهنها تستحق المراجعة، لأنها إضافة إلى التعميم والحكم المطلق على مجمل الحضارات تحول فعل الماضي الناقص، وهو كان، إلى فعل ماض تام.
وكأن هناك حضارات ظهرت على هذا الكوكب وانقرضت، كما يقال في الفلك عن كواكب تلاشت وما يزال ضوؤها مسافرا نحو الأرض، والأمر لا يحتاج إلى ثورة كوبرنيكية على غرار ثورة كوبرنيكس في الفلك كي نقول بأن الحضارة الجديرة بهذا الوصف لا تبيد بل تبيض، وبالتالي هي أشبه بشجرة تشيخ وتجف أنساغها بدءا من الجذور مرورا بالجذوع حتى الأغصان، لكنها ما أن تسقط حتى تنمو من بذورها غابة صغيرة.
ولو أخذنا الحضارة الإغريقية مثالا فهل بادت بعد ثلاثين قرنا؟ بدءا من ثالوثها الفلسفي وهندسة الرّي ومعبد دلفي ومجلس الإليغورا الذي كان أول ديمقراطية في التاريخ، رغم أن سدس أثينا كانوا من العبيد!
ما يقوله فلاسفة ومؤرخون عن حضارة الإغريق ومنهم الفريد وايتهيد والليدي هاميلتون، هو أنها كانت وما تزال عابرة للعصور، وهناك من يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، ويقول إن قدرنا البشري هو أن نرتطم أبدا بالأفق الإغريقي، حتى كارل ماركس استثنى من منهجه المادي الصارم لقراءة التاريخ تلك البواكير اليونانية التي تمثل كما يقول طفولة البشرية، ولهذا السبب كان يعيد قراءة أسخيلوس كل عام في الشتاء.
الحضارات التي تبيد هي تلك التي استنفدت كل ممكناتها وهي الأقرب إلى المدنية من الحضارة، حسب تصنيف أزوالد إشبنجلر، فالمدنية معيارها كمّي، أما الحضارة فمعيارها كيفي ونوعي، والمدنية اتجاه إلى الخارج أما الحضارة فهي تأمل داخلي، لهذا فالحضارة لا تنتهي، وقد تولد من لحدها مهود لا حصر لها، وهذا ما أعنيه بعبارة حضارات باضت، لكن ما تبيضه الحضارات يحتاج كي يفقس إلى حاضنات من طراز خاص، ولا يشبهها من الأحياء إلا طائر البطريق الذي يدافع ببسالة نادرة ضد انقراضه في أقسى الظروف المناخية في القطب المتجمد، فأنثاه تبيض مرة في العام، وتتدرب شهورا على طريقة الاحتفاظ بالبيضة كي لا تنزلق إلى الجليد لأنها لو انزلقت تموت، وقد شاهدت فيلما تسجيليا عن البطريق يصيب الآدمي بالقشعريرة لأن الأنثى إذا لم تنجح في الحفاظ على بيضتها تغادر إلى البحر، لكن بعد أن تعانق الذكر كما لو أنهما في رقصة الوداع.
ربما لهذا السبب كان أعسر اختبار للحضارات التي باضت هو كيف تحتفظ بممكنات لم تتحقق، وما دمنا بصدد المثال الإغريقي فإن لدى سقراط وأرسطو وأفلاطون وهراقليطس وأرستوفانيس وأسخيلوس ما يمكن اكتشافه بعد ثلاثين قرنا، حتى فيما يتعلق بشواهد قبور المحاربين من طراز أكاديموس الذي تنسب إليه الأكاديمية في عصرنا، لأن ضريحه كان يستضيف السجالات الفلسفية.
إن مصطلح الديمقراطية الذي يعني حكم الشعب، وكذلك مصطلح فلسفة الذي يعني حب الحكمة لم يترجما إلى لغة أخرى طيلة تلك العصور التي باعدت بيننا وبين أثينا، وما باضته الحضارة الإغريقية فقس بعد قرون وتخلقت عنقاوات كثيرة من ذلك الرماد المشحون بالوهج، والأشــــبه بذاكرة النار وليس بنهاياتها. والأصح هو القول بأن هناك دولا أو سلطات بادت في التاريخ، على طريقة ما قاله شاعرنا العربي وهو: هي الأيام كما شاهدتها دول. لأن الفعل دالَ هو المرادف للفعل زالَ، والدولة أو السلطة تباد ولا تبيد من تلقاء ذاتها، لأن هناك عـــــوامل موضوعية تؤدي إلى أن تأكل نفسها وتتلاشى، ولا تترك غير أطلال عمرانية، لكنها أطــــلال مهجورة، وليست كتلك التي طالما بكى عليها البشر لأنهم في الحقيقة لا يبكون عليها، بل على من شيدوها وعاشوا فيها وأودعوها أسرارهم وأشواقهم. لهذا لا نستغرب إذا اصغينا للنشيج يرشح من مساماتها التي أتت عليها عوامل التعرية.
إن الفارق بين من بادَ ومن باضَ هو الفارق بين العقم والإخصاب، ولا يبيد من البشر إلا من استوعبه القبر تماما ولم يَفِض عنه، فهل نبالغ إذا قلنا بأن أرسطو أكثر حياة ونبضا من بشر يسعون في هذه الأرض وتجرجرهم أمعاؤهم كما لو أنها أفاع جائعة، ويكفي أن نتذكر الأساطير اليونانية، وما قدمته من مناجم لعلم النفس، بحيث أصبحت عقد من طراز أوديب وإلكترا مجالا بالغ الحيوية لعلم النفس الإكلينيكي، كما أن أساطير مثل بروميثيوس الذي عوقب على سرقة النار أو سيزيف، ألهمت شعراء وفلاسفة بعد قرون طويلة، بدءا من شيلي حتى البير كامو، فالأساطير أيضا باضت لكن في التاريخ!
٭ كاتب أردني
خيري منصور