استدعاء الرئيس الفرنسي الأسبق ساركوزي من قِبل الضابطة القضائية الفرنسية وإخضاعه للحراسة النظرية من أجل استجوابه حول اتهامات بتلقيه أموالا لحملته الرئاسية من حاكم ليبيا الأسبق معمر القذافي ليس حدثا فرنسيا فقط، ويؤشر من خلال عملية الاستماع إلى تحول في الملف الذي سال حوله مداد كثير، ولغط في مختلف وسائل الإعلام والأوساط السياسية. كان موقع ميديا بارت الذي يديره للصحافي إيدي بلينقد نشر قبل ست سنوات معلومات عن تلقي ساركوزي أموالا من ليبيا في حملته الرئاسية. ولم يكن أحد يتوقع أن تتناسل الأحداث، ولا أن تفضي إلى تنصت وتتبع أديا إلى متابعة قضائية.
تتخذ القضية أبعادا متداخلة تتجاوز فضيحة الرئيس الأمريكي نيكسون المعروفة بـ «واتر غيت» التي كانت سببا في إقالته ومتابعته. تتداخل في قضية ساركوزي الجوانب القانونية والأخلاقية والسياسية وما يرتبط بها من أخلاقيات الدولة، وتداعيات تمويل من قبل دولة أجنبية في سباق رئاسي، و التأثير في القرار السياسي وتوجيهه، والمساس بالتبعية بسيادة الدولة. لكن القضية لا تتوقف عن هذا الشق، لأن لها تداعيات تتجاوز فرنسا، منها ما هو ظاهر يهم أحد فصول الربيع العربي، أو لنقل التدخل العسكري الفرنسي البريطاني لقصف القوات الليبية وهي قاب قوسين من إحكام قبضتها على بنغازي. هل كانت دواعي الرئيس الفرنسي الأسبق نبيلة، تقوم على معانقة مد شعبي، أم أن مردها الإجهاز على شاهد ثقيل وقبر سره معه؟
في العاشر من ديسمبر/كانون الأول، أي ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، من سنة 2007 حل القائد الليبي السابق القذافي بالإليزيه حلول الأبطال، وفرض شروطه البروتوكولية، ومنها نصب خيمة في ساحة فندق مارينيي على مرمى حجر من الإليزيه. كان حدثا غير عادي لشخص كان منبوذا من قِبل الغرب، ضُرب على بلادة الحصار عقب تفجير طائرة بانام أو القضية المعروفة بـ «لوكربي»، أن يحل بعاصمة الأنوار وبلد حقوق الإنسان في مظاهر احتفائية. لم يكن من حديث عن ليبيا آنذاك والذي استأثر باهتمام السفارات والإعلام سوى الحكم بالإعدام على ممرضتين بلغاريتين بتهمة تلويث الدم المحقن.
كانت حجة الرئيس الفرنسي ساركوزي لاستقبال القذافي أنه ينبغي الحديث مع الجميع، وينبغي إنقاذ الممرضتين البلغاريتين. كان الظاهر من زيارة القذافي صفقات مالية، منها طائرات مدنية من طراز إيرباص، ومنها طائرات حربية من طراز رافال. أما الباطن، أي عمولات وتمويل تحت الطاولة، فلم يكن ليظهر آنذاك.
كان صاحب «المكرمة» في التقارب الليبي الفرنسي هو الفرنسي اللبناني زياد تقي الدين، وهو شخص له سجل حافل من الوساطات ما بين فرنسا والسعودية، أيام شيراك. كان هو من ارتبط بمسؤول المخابرات الليبية عبد الله السنوسي. كانت ليبيا في مسيس الحاجة لتلميع صورتها وقد استخلصت العبرة مما وقع في العراق وما حدث لصدام حسين. ولم تكن تود أن تبقى في قائمة الدول المنبوذة، وكانت قد خرجت للتو من حصار أثّر سلبا على الوضع الاقتصادي والاجتماعي وتسبب في تأخير برامجها التنموية، مثلما كان القائد الليبي مهووسا في شأن خلافته، وكسب الغربيين لنقل المشعل لابنه سيف الإسلام.
من تلك الوساطة التي أبرمها زياد تقي الدين تمخض أول سفر لساركوزي سنة 2005 إلى طرابلس وهوإذاك وزيرا للداخلية. وتواترت بعدها الأسفار إلى ليبيا من قِبل مقربين من ساركوزي، هم الآن موضع متابعة قضائية.
وجرت مياه تحت الجسر ودخل وسيط آخر على الخط، فرنسي جزائري، يسمى جوهري، ويلقب بألكسندر، على علاقات وطيدة مع أقطاب اليمين الفرنسي، وصداقة مع مدير ديوان الرئيس الفرنسي، كلود كيان، وعلاقة وطيدة مع نظيره الليبي بشير صالح. سيصبح زياد تقي الدين متجاوزا، وهو ما سيحدو به لا حقا، إلى أن يفضح العلاقة المشبوهة، ما بين المسؤولين الليبيين والفرنسيين في خضم التنافس الرئاسي الفرنسي لسنة 2012.
قبل ذلك بسنة، وفي أوج الثورة الليبية التي اندلعت بتاريخ 17 فبراير/شباط 2011، وقد تقدمت قوات القذافي نحو بنغازي، حيث كان يتأهب لارتكاب مجزرة ضد الثوار، صرح ابن القائد الليبي، سيف الإسلام لقناة «أورونيوز»، بأن ليبيا مولت الحملة الانتخابية للرئيس الفرنسي. تم وقف تقدم القوات الليبية من قبل قوات التحالف الدولي الذي أقرته الأمم المتحدة. في تلك الأثناء تم إخراج بشير صالح، برعاية من الوسيط ألكسندر الذي يتوفر على علاقات وطيدة على مستوى أصحاب القرار الفرنسي، وترحيله إلى النيجر، ومنه إلى جنوب افريقيا، حيث سيتعرض لمحاولة اغتيال.
هل كان الرئيس الفرنسي ساركوزي يتصرف انطلاقا من مبادئ، وتطبيقا لقرارات دولية أم انطلاقا من مصلحة شخصية بغطاء أممي؟
المعلومات التي تم تسريبها إلى الصحافة الفرنسية مقصودة، بناء على معطيات دقيقة فهي نتاج تحر وتتبع استخدم فيه التنصت بأمر من القضاء. وكان عسيرا على القضاة التأكد من التمويل لأن التحويلات تمت من خلال أموال سائلة، إلا أن العنصر الجديد هو تسلم السلطات الفرنسية من لدن السلطات النرويجية دفترا كُتبت عليه بيانات بخط اليد، من قِبل من كان وزيرا للبترول شكري غانم، يشير فيه إلى اللقاءات التي تمت في ضيعة بشير صالح بضواحي طرابلس مع مسؤولين فرنسيين، وعلى تمويل الحملة الرئاسية الفرنسية. دقة الوزير في تقييد مجريات الأمور لم تنفعه لأنه سيلقى حتفه غارقا في نهر الدانوب في ظروف غامضة.
لا يستبعد أن تأخذ القضية أبعادا جنائية حول «غرق» وزير البترول الليبي شكري غانم، وإطلاق النار على سيارة بشير صالح في جنوب افريقيا في محاولة اغتياله.
إنه فصل خطير في العلاقات الدولية سيقلب كثير من التوجهات على أكثر من صعيد في فرنسا ويؤثر بالتبعية في علاقاتها مع العالم أو علاقات مسؤوليها بكثير من دول العالم الثالث حيث تختلط الشؤون العامة بالمصالح الشخصية.
كاتب مغربي
حسن أوريد