أشرت في مقال سابق إلى صعوبة تحقيب الشعراء أو تصنيفهم إلى أجيال. وقد دأبنا كلّما تعلّق الأمر بالشعر العربي الحديث إلى القول إنّ هناك ثلاثة أجيال: جيل الحداثة الأوّل فالثاني فالثالث، وربّما «ما بعد الحداثة» كما يطيب للبعض.
وثمّة ما يشبه الإجماع ـ ما تعلّق الأمر بالمدرسة العراقيّة أو «الآباء المؤسّسين» ـ على أنّ الجيل الأوّل يشمل من حيث التراتبيّة الزمنيّة، السيّاب والبيّاتي ونازك والحيدري؛ وإن كان بلند لا يُذكر إلاّ نادرا؛ إذ أهمله المنظّرون كما يقول عيسى مخلوف، واعتبروه من هوامش الريادة لا متونها، على الرغم من لغته الحيّة المتوتّرة، ونفَسه الملحمي. والحقّ أنّ مقولة «التأسيس» في ثقافتنا تفيض على حوافّ المنظومات المعرفيّة والسياسيّة «الوطنيّة» معا؛ وكلّ منها تستصفي هذه المقولة ميزة جوهريّة تجاذب بها غيرها، بوجه حقّ حينا، وبغير وجه حقّ حينا. فإذا انتقلنا إلى الجيل الأقرب إلى هؤلاء، استوقفتنا أسماء شعريّة بارزة: سعدي يوسف ويوسف الصائغ وسركون بولص وسامي مهدي وعلي جعفر العلاق… ولكلّ منهم مزيّته الشعريّة الخاصّة. وقد تخيّرت أن أقصر هذا المقال على تجربة سامي مهدي، لسببين: أحدهما اطّلاعي على أكثر مجاميعه، وإن كنت أتمثّل هنا بمجموعته «حنجرة طريّة»؛ والآخر ـ وهو رأي أجازف به ـ فهذا الشعر في تقديري صورة لأظهر خصائص المدرسة العراقيّة، قلّما اجتمعت في شعر شاعر عراقيّ آخر إلاّ عند سعدي يوسف. وأقصد قوّة اللغة (وأستثني البيّاتي والحيدري فلهما شأن مختلف)، والتمرّس بها واستكشاف مدى استجابتها للخيال أو استجابة الخيال لها؛ حتّى أنّ المعنى فيها موقف منها أو هو افتتان بقوّة الكلمة على خلق الصورة، وربّما تعذّر، بسبب من ذلك، على الإدراك.
يُعرّف الشعر في الأعمّ الأغلب، باستخدامه الخاصّ للغة؛ أي بمعنى «الفرق» عن اللغة المتداولة أو «المحكيّة»، وهو حدّ غير دقيق، إذ كثيرا ما يتلفت سامي مهدي ناحية النثر لا في هذه القصائد النثريّة التي أشير إلى بعضها في ما يأتي، وإنّما في أكثر شعره الموزون، حيث يطعّم قصيدته بسرديّة خاطفة أو مطوّلة، وبمفردات اليومي والمعيش، ويخلّصها من الإسراف في التّنغيم (إلاّ في الموزون حيث يحرص على القافية) لكن من دون أن يمنعها ذلك من أن تكون نصّاً شعريّاً «إنشاديّا»، وهو الذي يعيد تركيبها في الميديوم/الوسيط الشعري؛ حتى أنّ ما نسمّيه «قصيدة النثر» يمكن أن يكتب داخل الوزن أو الإيقاع، كلّما تخفّفت (الشّعريّة) من شعريّتها أو مِمّا زاد منها على الحاجة أو من فضل القول. كما يعرّف الشعر باحتفائه بتماثلات الصوت والإيقاع والصورة، وهي من مظاهر كثافة اللغة الشعريّة أو سُمكها. فالقصيدة نظام مخصوص من الكلمات. وهذا النظام هو الذي ينبغي أن تستكشف مؤتلفاته ومختلفاته، وما يعقده بعضها ببعض، من علائق شدّ وجذب. وفي مقال كهذا، هو ليس أكثر من إطلالة على عالم شاعر له أثره في كثير من أبناء جيلنا، يتعذّر أن نأتي على كلّ هذه العناصر.
القصيدة التي تفتتح هذه «النثريّات» الاستثنائيّة في تاريخ قصيدة النثر، هي قصيدة
«حنجرة طريّة» وهو العنوان الذي وسم به الشاعر الكتاب كلّه بقسميه الموزون والمنثور. والقسم الثاني منه «النثري» يستدعي وقفة، ولو عجلى، على العنوان فهو ليس مجرّد « تعيين خالص»، إذ هو ينهض بوظيفتين معا: غرضيّة وشكليّة. والأولى تومئ إلى محتوى النصّ، فيما الثانية «تجنيسيّة» أو فنيّة.
وهذه القصيدة تؤكّد على بساطتها المراوغة ما يسمّى «الجوهر التأثّري» في الشعر أي إيقاع الأشياء والذوات؛ أو ما يتلقّفه الوعي ونحن نتذكّر أو نحلم الحلمَ الذي يملأ كلّ أرجاء عالمنا الخاص أو ما يسمّيه علماء النفس «الذاكرة التأثيريّة»؛ فلا يتبقّى من الجارة التي تعوّدت أن تصرخ في كلّ ليلة «سوى حنجرة طريّة» أشبه بأثر مخزون في الذاكرة. و»الجارة» قد لا تكون أكثر من «معادل موضوعي» أو معادل انفعاليّ أو «خيال سمعيّ» للفكر أو للشعر نفسه، حيث الحنجرة الطريّة هي الكلمة الطازجة الدقيقة في مقابل الكلمة التي تذبل وتضمر وتفقد جدّتها ونعومتها. وربّما ليس أدلّ على ما أنا بصدده، وأتمّ من كلمة خشخاش. والخشخاش ليس مجرّد النبات الذي يستخرج منه الأفيون، وإنّما هو في القصيدة رمز لكل شيءٍ يابس أو ميّت، لا يصدر عنه سوى صوت أشبه بصرير الحشرجة؛ ِذَا حُكَّ بعضُهُ ببعضٍ:
ذات ليلةٍ سمعت جارتي تصرخ/ فحملتُ ريشي وذهبتُ إليها/ منحتها هدهدةً وشيئا من الخشخاش/… حتى جاءت ليلة صرختْ فيها كثيرا/ صرخت حتى الموت/ ولم يكن لديّ خشخاش/ وكانت بي حاجة إلى هدهدَة.
والنصّ أشبه بسلسلة من الأحداث المختزلة تتمثّل واقعة خارجيّة، يقدّمها الشاعر بخبرة حسيّة؛ فتكون مثار الوجدان أو الانفعال. والحقّ أنّ سامي مهدي يصوغها في شكل معادلات رياضيّة للحالات الإنسانيّة، تنمّ عن قوّة ذهنيّة قد يكون مردّها إلى تكوينه العلمي.
ولعلّ ذلك كان سببا من أسباب حفاوة الشاعر بالتعبير الكنائي أو الرمزي الذي لا يقاوم القراءة ولا يحول دون استعادة المعنى، لما تقوم عليه الكناية من المجاورة، ومن الوظائف التي تعلق بها سواء أكانت إفهاميّة أم إخباريّة مرجعيّة، بل جماليّة أيضا ترجع إلى إيقاع الائتلاف بين المختلفات؛ أو «تأليف الغريب».
ومن هذا الجانب فإنّ ظاهرة كهذه أبعد من أن تفسّر بطغيان وظيفة دون أخرى، فثمّة في كلّ هذه النصوص؛ مراوحة لا نخالها تخفى بين ما هو «جماليّ» وما هو «مرجعيّ» أو ما نسمّيه «شفافية التّوصيل». وأمثلة ذلك كثيرة في هذا الكتاب، فـ»داليّة المعرّي» مثلا استئناف لإنشائيّة الأثر. وهذه القصيدة نشأت منذ البداية قرائيّة، تنشأ وهي تقْرأ موادّها وخاماتِها وكلّ ما يدور في فضائها؛ ولكن بحسب ما تمليه عليها طبيعة جنسها:
تسُوطني دالية المعرّي في كلّ يوم/ فأمشي بخفّة ويقظة/ لئلاّ أرفس جمجمةَ أحد الأسلاف/ ولكن سرعان ما أنسى/ وأسلمُ نفسي لخيلاء الأحياء…
ولا نخال صورة كهذه إلاّ مظهرا لمعنى ناجز تامّ سابق على النّصّ (خفّف الوطءَ في النصّ الأمّ) وإن كان ذلك لا يحول دون أن ينشئ معنى أو فضل معنى إبّان قراءته؛ كما هو الشأن في صورة التفاحة التي تنطّ مثل ضفدع، لنكتشف أنّنا مهما دارينا، أن سلّم الحياة مصاطب من عظام الموتى. وهي صورة»خلاسيّة» مركّبة لا تغني هذا النصّ فحسب، وإنّما تغني السابق أيضا أي نصّ المعرّي، بحيث يُقرأ في ضوء لاحقه في سياق شكل من أشكال التداخل؛ حيث الزمنيّة الشعريّة لا تتوزّع إلى ماض وحاضر ومستقبل، وإنّما هي حاضر أبديّ، ولا يحتاج الشعراء بموجبها إلى أن يعيدوا إحياء «الموتى» فهم حاضرون في قصائدهم ،وهم يحاورونهم باستمرار. وضمن الوعي بأنّ الشعري قائم على التداخل، يكون منشدّا إلى نفسه مثلما هو منشدّ إلى سابقه بل لاحقه؛ إذ هو ينشأ «قرائيّا» أو هو «يضفي معنى أشدّ نقاء على كلمات القبيلة» بعبارة مالارميه: الأحياء يمضون ولا يلتفتون/ وفي يد كلّ منهم تفّاحة يقظمها بالتذاذ/ ويلفظ بذرتها وراءه/ وفي رأسي صوت نحاسيّ/ يردّد دالية المعرّي.
على أنّ هناك مزاوجة في بعض هذه النصوص، بين أداء شفهيّ وأداء كتابيّ حيث الفصيح يستلهم الكلام المألوف؛ على نحو ما نجد في نصّ «الشيخ غزال» الذي لا يعرف أحد كيف ينام ولا كيف جُنّ. وهو «حكاية رمزيّة» أي «أليغوريا»:
ذات صباح اختفى الشيخ غزال كما تختفي البروق/ ولم يره أحد بعد ذلك أبدا/ لكنّه ترك وراءه جناحين كسيرين/ وكتابا مدرسيّا في طبّ العيون/ وذات مساء أطلّت نجمتان برّاقتان فوق بيته، فقيل إنّهما عيناه/ ومنذ ذلك الحين والنساء العواقر/ ينذرن لعينيه النذور.
وقسْ على ذلك نصوصا أخرى مثل «الخيول» التي تعرف وحدها لِمَ سُمّيت خيولا. فهذا النصّ يكشف عن قدرة لا تخفى في استنطاق المعاني الحافّة، أي هذه الدّلالات المتجاورة التي تزري بالمعجم. ومثال ذلك أيضا «ضربة حظّ»:
أحلم بحذاءٍ جديد/ حذاءٍ حديديّ/ أعبر به من قارّة إلى قارّة/ لكنّ آسيا تلك القارة العتيقة/ هي المعضلة/… فما زالت تحبّ الأسمال والثورات ودعابات المتروبول…/ فلم أجد إلاّ رأسي/ ولكنّنني اكتشفت بعد ثوان وليس أكثر/ أنّ رأسي ليس سوى بطّيخة آسيويّة…
صحيح أنّ لغة الشاعر ذات إيقاع خاصّ بها يختلف عن جوهر الإيقاع الصّاعد في القصيدة. ولكنّ أخذ البنية الصرفيّة عنده، بالاعتبار يمكن أن يوقفنا على مشابهة «عجيبة» بينها وبين بنية التفعيلات، ويفضي بنا إلى استنتاج قد يرى فيه البعض تمحّلا؛ ومفاده أنّ الشعراء المتمرّسين بالوزن، هم الأقدر على كتابة قصيدة نثر متميّزة.
شاعر تونسي
منصف الوهايبي
أستاذي الفاضل،
في لغة الضاد نحن نقضم التفاح ولا نقظمه!
طبعا “قضم”. وهذه هَنات مطبعيّة يكاد لا يسلم منها نصّ. كنت أنتظر رأيا منك. تحيّاتي
دمت كما عهدناك متألقا أستاذي .
تمثّل قصيدة النثر مبحثا مهمّا بالنسبة لي ؛لذالك نرجو منك أن تمدّن بأهم المراجع التي تتعلّق بهذه الإشكالية.
ما علاقة الخطاب الواصف في الشعر بقصيدة النثر ؟مع الشكر