سجالات الذكرى الأولى للانقلاب العسكري في تركيا

حجم الخط
0

قال آيهان أوغان، أحد الشخصيات القيادية السابقة في حزب العدالة والتنمية الحاكم، في تصريحات إعلامية، إن ما جرى في الخامس عشر من تموز/يوليو 2016، هو ثورة شعبية نتج عنها «بناء دولة جديدة» بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان.
أدى كلام أوغان هذا إلى ردود فعل حادة في الإعلام التركي، تركزت على فكرة أن بناء دولة جديدة، يعني ضمناً هدم «الدولة القديمة» أو القائمة. وهو أمر لم يجرؤ أحد، قبل اليوم، على القول به، بمن في ذلك مصطفى كمال أتاتورك الذي أسس دولة جديدة من ركام الإمبراطورية العثمانية. فالسردية التاريخية التركية قائمة على فكرة «الاستمرارية» بين الدول التي أقامها الأتراك على مر التاريخ، لا على القطع بين دولة والدولة التالية. ولو قال أوغان ببناء «نظام سياسي جديد» لما وجد اعتراضاً من أحد، فالاستفتاء الذي جرى في منتصف شهر نيسان الفائت قد أسس نظاماً سياسياً جديداً بالفعل. أما الحديث عن بناء دولة جديدة فقد تضمن جرعة صدمة لا يحتملها الرأي العام في تركيا، سواء بشقه الموالي للحكومة أم بشقه المعارض.
وقد يكون الرجل مدفوعاً فعلاً بطموح شخصي لـ»لفت نظر» القيادة على أمل أن يصبح من المقربين إلى الرجل الوحيد صاحب السلطة الفعلية المطلقة في تركيا اليوم، على ما ذهب إليه الكاتب المعارض «مراد بلغة»، ولم يقصد ما قاله حرفياً بشأن بناء دولة جديدة. لكنه، ربما من غير قصد، قدم وصفاً مطابقاً إلى حد كبير لما يجري في تركيا منذ سنوات، وخصوصاً منذ تاريخ الانقلاب العسكري الفاشل الذي تلف مجرياته الغموض إلى اليوم.
وقد أصدر الصحافي المقرب من الحكومة عبد القادر سلفي كتاباً، تواقت توزيعه مع ذكرى الانقلاب العسكري، أورد فيه معلومات تفصيلية عما جرى في تلك الليلة الطويلة. معلومات زادت من الغموض بدلاً من إجلائه، مما وفر مزيداً من المسوغات لمن يشككون في أنه كان «انقلاباً تحت السيطرة» وفقاً لتعبير كمال كلجدار أوغلو، رئيس حزب المعارضة الرئيسي في تركيا.
ومهما يكن الأمر، فإن مجريات ما بعد فشل المحاولة الانقلابية كافية وحدها لتغذية عدم الثقة بالحكومة، الأمر الذي كشفت نتائج استفتاء نيسان على التعديلات الدستورية أثره على انخفاض شعبية الحزب الحاكم. فحملة التصفيات الواسعة في مختلف أجهزة الدولة ومؤسساتها، أعطت انطباعاً محقاً بأن «الرجل» بصدد إعادة صياغة الدولة بكاملها، مؤسسات وأفراداً وعلاقات قوة. وفي هذا الإطار كان لافتاً، على سبيل المثال، تغيير قادة القوات الثلاث (البرية والجوية والبحرية) في المؤسسة العسكرية، في المجلس العسكري الذي انعقد في مطلع شهر آب الحالي، مع الاحتفاظ برئيس هيئة الأركان خلوصي آكار الذي ثبت ولاؤه للرئيس في ليلة الانقلاب المشؤومة.
«ما حدث في ليلة 15 تموز هو ثورة شعبية» قال أوغان، قاصداً بذلك حركة المقاومة المدنية للانقلابيين التي كلفت نحو 250 قتيلاً كرستهم «الدولة الجديدة» شهداء للديمقراطية. وهذا استئناف، بمعنى من المعاني، للكتلة الشعبية الكبيرة الثابتة التي تدعم حكم حزب العدالة والتنمية منذ وصوله إلى السلطة في العام 2002، الأمر الذي يعتمد عليه الحزب وقائده في تفنيد دعاوى المعارضة حول دكتاتوريتهما المفترضة. وذلك على رغم أن تصفيات ما بعد الانقلاب الفاشل، وبالطريقة التي تمت بها، جعلت هذه الكتلة تتململ ويبدأ التراجع في حجمها، الأمر الذي كشفته أيضاً «مسيرة العدالة» التي قادها رئيس الحزب العلماني كلجدار أوغلو الشهر الماضي، ولاقت تجاوباً شعبياً وسياسياً كبيراً أعاد إلى الأذهان حجم المعارضة الكبير للتعديلات الدستورية.
ولا يقلل من أهمية كلام أوغان حول «الدولة الجديدة» تنصل كل من رئيس الوزراء بن علي يلدرم ورئيس الجمهورية أردوغان منه، في الوقت الذي أصابت فيه التصفيات رجلاً آخر كان يعتبر من الشخصيات الثابتة المقربة من الحكم، عنيت به محمد غورمز رئيس الشؤون الدينية المزمن الذي قدم استقالته في نهاية الشهر الماضي.
دارت تكهنات مختلفة بشأن هذه الاستقالة المفاجئة، لكن أحداً لم يعتبرها إقالة صريحة، لأن الرجل لم يصدر عنه ما قد يشي «بخروجه عن الصف». وانتظر أردوغان بضعة أيام حتى وجه أول انتقاد لغورمز، كأنه أراد القول إنه هو من دفعه للاستقالة. فقد انتقد «الشؤون الدينية» بالتقصير في مكافحة جماعة فتح الله غولن المتهمة بتدبير الانقلاب الفاشل.
لكن تفصيلاً صغيراً حول مجريات ليلة الانقلاب، مما أورده الكاتب «سلفي» في كتابه، تضمن أيضاً اسم محمد غورمز. فقد ذكر أن رئيس جهاز الاستخبارات «هاكان فيدان» اجتمع على مائدة العشاء في مبنى ملحق بمقر الجهاز الذي يرأسه، في الساعة العاشرة من تلك الليلة، مع كل من معاذ الخطيب، الرئيس السابق للائتلاف الوطني السوري المعارض، ومحمد غورمز. ما زال هذا الاجتماع يلفه الغموض بشأن برنامجه، كما بشأن عدم إلغاء الموعد المسبق بشأنه، على رغم أن تحركات الانقلابيين كانت قد بدأت قبل قليل.
فقط بعد دقائق من بداية «تناول الحساء» الذي يسبق الطبق الرئيسي، نهض فيدان واستأذن ضيفيه بالانصراف، بعد تلقيه مكالمة على تليفونه المحمول. مع العلم أن فيدان كان قد قصد مبنى قيادة الأركان للتباحث مع رئيسها حول وشاية وصلته، في الثالثة ظهراً، بشأن العملية الانقلابية الوشيكة. ولم يغادر مبنى الأركان إلا للالتحاق بموعده على العشاء مع كل من الخطيب وغورمز.
ترى هل يلحق رجل الاستخبارات القوي الذي وصفه أردوغان، ذات يوم، بـ»خزان أسراره» برجل الشؤون الدينية القوي، وبالرئيس السابق للائتلاف السوري المعارض، في الخروج من ملاعب السياسة العميقة؟

٭ كاتب سوري

سجالات الذكرى الأولى للانقلاب العسكري في تركيا

بكر صدقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية