تزامن قد يبدو رقميا وبمحض المصادفة بين هزيمة حزيران/يونيو عام 1967 والذكرى السابعة والستين لتلك الظهيرة السوداء، لكنه تزامن دراماتيكي، فالهزيمة بلغت السابعة والستين من عمرها، رغم أن من تسببوا بها وعدوا الناس بوأدها بعد أيام من حدوثها، وثمة ملاحظتان على الأقل تستوقفان المرء هذا العام، الأولى تهميش الذكرى وكأن من هزموا تأقلموا وأصبحت تلك الواقعة أمرا مألوفا في التقاويم، والثانية هي ما طرأ على الواقع العربي من أحداث جسام عصفت به وأنذرت بإعادة تقسيمه بعد قرن من سايكس بيكو، فالاستعمار قسّم الوطن العربي إلى أقطار، لكن من زعموا بأنهم حققوا الاستقلال ذهبوا إلى ما هو أبعد وحولوا أوطانا إلى كسور عشرية بمقياس طائفي.
قبل سبعة وستين عاما هي عمر الهزيمة وعمر جيلنا الذي أحصى أيامه بملاعق الدم وليس بملاعق القهوة، كما يقول الشاعر إليوت، كانت اللحظة فارقة، فإما قبول ما جرى كأمر واقع والتأقلم معه أو التمرد عليه وتحويل الهزيمة إلى رافعة والكبوة إلى لقاح وطني، لكن ما حدث هو التأقلم باستثناءات باسلة لمن أصبحوا جملة اعتراضية في الكتاب القومي وقاوموا حتى القيامة، لكن دماءهم لم تجد المصب الجدير بها فشربتها رمال الصحارى، ورغم كثرة ما كتب عن تلك الهزيمة، إلا أنه كان في معظمه إعادة إنتاج لما كُتب قبلها بعشرين عاما، بحيث أطلق أحد المؤلفين على كتابه الصادر عام 1967النكبة الثانية، وقد استعير مصطلح النكبة من الطبيعة وكوارثها، رغم أن الهزائم من صلب التاريخ ومن أطلقوا مصطلح الاغتصاب على الاحتلال عبروا من حيث لا يشعرون عن ثقافة ذات بُعد جنسوي، وفاتهم أن المغتصب قد يفرض عليه الزواج ممن اغتصبها وتنتهي الرواية عند هذا الحد الذي تتزاوج فيه التراجيديا مع الكوميديا على نحو غير مسبوق.ربما كان ما كتبه الراحل أميل حبيبي بعنوان «سداسية الأيام الستة» هو الأجدر بالاستدعاء إلى الذاكرة، بعد كل ما أصابها من زهايمر سياسي بواسطة الحقن والجرعات المتصاعدة من التخدير الذهني، أميل حبيبي تخلى في سداسيته قليلا عن تلك السخرية الوقائية التي طالما لاذ بها وكأنه يجسد ما قاله جورج لوكاتش عن السخرية بوصفها شكلا من أشكال المقاومة، فهي تسعى إلى تسفيه الديكتاتور وإعادة الطاووس إلى حجمه بعد نتف ريشه الغزير الملون! وتحدث أميل عن الأيام الستة بإحالات ميثولوجية ذكية، لكن تلك السداسية كانت سداسية الأيام كلها، فنحن نعيش منذ سبعة وستين عاما اليوم السابع لحرب الأيام الستة، أطول أعوام التاريخ المعاصر وأعجفها، وفي ذلك اليوم الذي حشرت فيه أمة بأسرها وأسراها معا بين قوسين هما شفَقَه الدامي وغسقه الهجيلي، الذي لا تكف سحابة البوم فيه عن النعيب، ولا ندري كم سيستطيل هذا اليوم وكم سيقضم من الأعوام المقبلة!
وما أفرزته التراجيكوميديا الحزيرانية من نقد بلغ حدّ التقريع والماسوشية والتلذذ بهجاء الذات كان قليله أشبه بقرع أجراس لا تكف عن الرنين، فقد كتب بعض المشتغلين في علمي النفس والاجتماع نقدا ذاتيا به فاعلية التدارك والترميم، منهم صادق العظم في كتابه النقد الذاتي بعد الهزيمة، وأعقب ذلك دراسات عن الذات المقهورة والمهدورة لمصطفى حجازي والذات الجريحة لعلي زيعور والشخصية الفهلوية لحامد عمار.
لكن تلك المضادات الحيوية للهزيمة لم تقرأ كما تستحق، وطفت على السطح بعد حالة الاستنقاع المزمنة، كتابات هاجسها ترميم النرجسية النازفة، ومنها ما كان همه الوحيد التبشير بالخلاص من خلال انقلابات عسكرية متعاقبة.
في تلك الأيام التي سطعت فيها شمس حزيران بحيث أذابت الأجنحة الشمعية لسلالة ديدالوس، نشر الراحل نزار قباني هوامشه على دفتر النكسة، ونكأ ما استطاع الجراح قبل اندمالها، وهي التي لا تقبل الاندمال، بل تتثاءب أحيانا كي تضاعف من النزيف والألم، قال نزار حرب حزيران انتهت وكأن شيئا لم يكن … ولو كان الشاعر الراحل حيا لسألناه أين هي الحرب التي لا تنتهي وكأن شيئا لم يكن في واقعنا، اجتياح بيروت أم عدة حروب استهدفت غزة وبالتحديد أطفالها أم حروب الخليج الثلاث.. حروبنا تبدأ بمعزل عنا، وتنتهي بقرارات لا تخصنا لهذا فهي تمرّ وكأن شيئا لم يكن.
* * *
من الظواهر التي برزت على نحو لافت بعيد تلك الهزيمة من أطلق عليهم النقد اسم شعراء المقاومة، الذين كانوا يملأون قائمة طويلة سرعان ما انحسرت وانتهت إلى شاعرين أو ثلاثة، وانفرد محمود درويش يومئذ بوعي ذاتي ونقدي حين كتب مقالة بعنوان، انقذونا من هذا الحب القاسي، لأن النقد العربي خصوصا المتداول صحافيا وجد في ظاهرة أدب المقاومة منجما أسطوريا لا ينفذ. وسرعان ما تراجع النقد عن شروطه الفنية المتعالية، ليصبح مجرد شروح لقصائد أو إعادة كتابتها نثرا، وذلك إما تطهرا وبحثا عن تعويض العجز وعدم التعبير عن مواقف، أو استثمارا للرائج الشعبي، ما أتاح لنصوص غزيرة قد تكون عديمة الصلة بالشعر أن تستمد مبرر نشرها وشرعية شعريتها من معجم محدد من مفردات المقاومة، رغم أن المقاومة كمفهوم إنساني وثقافي تتسع لأدق التفاصيل في حياتنا، ولا تضيق بحيث تصبح في حجم فوهة مسدس أو بندقية، لكن ما أن عزف النقد عن متابعة هذه الظاهرة وأصبح الواقع كله داجنا في متوالية الاستهلاك وتجريف الوعي حتى انحسرت الظاهرة أيضا.
إنها سداسية التقاويم كلها وليس مجرد الساعة الخامسة والعشرين، أو النمور في يومها الحادي عشر وليس العاشر فقط لزكريا تامر… إننا نعيش يومها السابع منذ عدة عقود لكن في لحظات الغسق، حيث لا النهار يغرب تماما ولا الليل يأتي فيظهر فيه قمر أو نجم!
كاتب أردني
خيري منصور
48 عاماً على حرب الأيام الستة و67 عاماً على النكبة ..