برزت مدينة البندقية في القرون الوسطى المسيحية كقوة تجارية أوروبية في البحر الأبيض المتوسط. ولذلك كان من الطبيعي بعد توسع العثمانيين وهيمنتهم على المتوسط أن يندفع صنّاع القرار السياسي في البندقية إلى نسج علاقات حيوية ومختلفة ـ مقارنة بباقي الدول المسيحية- مع العثمانيين. ورغم الحروب التي جمعت الطرفين في فترات مختلفة، بقيت الروابط بين البندقية والدولة العثمانية أمتن من علاقاتها حتى مع البلدان المسيحية الأخرى. فقد كان الأثرياء العثمانيون يستوردون القماش والأواني الزجاجية التي اشتهرت بها البندقية، كما استطاع العثمانيون من غير المسلمين الحصول على الكتب المطبوعة في اليونان بجهود البنادقة خلال القرن السادس عشر الميلادي. وفي المقابل كان التجار البنادقة يشترون القطن من سوريا وقبرص لأجل بيعه في أوروبا الوسطى.
وقد أدّى هذا الاحتكاك الإيطالي المبكّر بالعثمانيين إلى إسهام الإيطاليين بشكل كبير في رسم الانطباعات الأولى عن المسلمين العثمانيين داخل أوروبا المسيحية. إذ دوّن الرحالة والمبعوثون وبعض التجار جوانب من الحياة السياسية والاجتماعية العثمانية، التي شكّلت لاحقاً – بالنسبة للمؤرخين – مصدراً جيداً لمعرفة حوليات العثمانيين في القرنين السادس عشر والسابع عشر. كما ساهمت هذه الرحلات والكتابات أيضاً – بحسب بعض المؤرخين والعاملين في حقل الدراسات الاستشراقية – في تشكيل أولى الصور النمطية والمجازات الاستشراقية عن الفضاء العثماني، وهي الصور التي بنى من خلالها الأوروبيون في القرن الثامن عشر عدد من الموتيفات الجنسية عن عالم العثمانيين.
ويعدّ كتاب السفير الإيطالي أتفيانو بون «سراي السلطان» (الذي نُشِر بالإيطالية في النصف الأول من القرن السابع عشر، وتُرجم قبل سنتين إلى العربية من قبل مشروع كلمة للترجمة) واحداً من أوائل النصوص المبكرة التي رصدت حياة العثمانيين وعالم الحريم السلطاني، والذي بات لاحقاً من المرجعيات الأساسية والتقليدية لخيال الكتاب الأوروبيين في القرن الثامن عشر. ووفقاً لكتاب الباحث التركي أرفن جميل شك «الاستشراق جنسياً» فإن هذا النص، بالإضافة إلى كتاب ميشيل بوديير «تاريخ الحكم الإمبراطوري للسادة الكبار» يعدان من الكتب الأولى التي «وضعت الأساس للأوصاف التخيلية والمسبوغة بالطابع الإيروتيكي للحرائم الإمبراطورية» (ص 163 /النسخة العربية).
وبالعودة إلى مؤلف الكتاب، تشير بعض المؤلفات إلى أن أتفيانو بون كان قد عُيِّن سفيراً لجمهورية البندقية في إسطنبول خلال الفترة الممتدة بين عامي (1604-1608) بعد جلوس السلطان أحمد الأول (1603-1617) على العرش، وخلال هذه الفترة كتب بون كتابين حول القسطنطينية، وهناك من يقول إنه كتبهما عقب عودته إلى البندقية؛ أفرد الأول للحديث عن «سراي السلطان» والثاني عن «أهم أسس الحكم عند الأتراك».
ومما يسجلّه مترجم النص زيد عيد الرواضية في بداية مقدمته الطويلة للترجمة (75ص من أصل 216) أن هذا النص ينتمي إلى ما يعرف في الآداب الأوروبية بالتقارير السفارية التي كان يقدمها السفير في مهمته الدبلوماسية، والتي كانت تتجاوز الطابع السياسي لتصف حياة الناس وطرائق عيشهم وعاداتهم.
وبالفعل فإن من يطلّع على الكتاب يجد وصفاً اثنوغرافياً عاماً حول الأمور المتعلقة بحوليات العثمانيين السياسية والاجتماعية، بدءاً بقصر طوب كابي الذي بناه محمد الفاتح بعد فتح القسطنطينية عام 1453، وتسميات العاملين داخل القصر، مروراً بحكايا وقصص الحب والإيروتيكا داخل القصر، وطريقة اختيار السلطان لمن تشاركه ليلته. ومما يذكره اوتفيانو في هذا الجانب من صور إيروتيكية، هو أن الكثير من حريم السلطان يُقدّمن إلى السلطان كهدية فاخرة، لأنهن عذارى، وعادة ما تنام صحبة كل عشر فتيات امرأة كبيرة في السن، كما تبقى الفوانيس موقدة طوال الليل من أجل إبعاد «الفتيات عن الفسوق» إلا أن الأكثر تشويقاً في هذه الصورة عن الحياة الجنسية داخل مخدع السلطان، هي إشارة اتفيانو إلى أنه عندما تكون إحدى الفتيات مع السلطان في السرير، «فإنه يُخصص لهن بعض الخادمات السوداوات الكبيرات اللواتي يبقين بالتناوب مثنى كل ثلاث ساعات في الغرفة حيث يضيء مصباحان دائماً: أحدهما في باب الغرفة والثاني عند أرجل السرير (حيث تكون الخادمة الثانية) دون أن يشعر السلطان بأي ازعاج». ولعل في هذا المشهد البورنوغرافي الذي يرسمه الكاتب عن حضور النساء السوداوات ومشاهدتهن للسلطان وهو يداعب إحدى جواريه ما يذكرنا ببعض كتب الأوروبيين التي نُشرت لاحقاً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر عن المرأة السوداء التي لا تمتلك لا المشاعر ولا الخبرات التي تمتلكها امرأة من العرق القفقازي (وكما يُروى فإن معظم جواري السلطان كنّ من القفقاز)، ولذلك فهن لسنا نساء بقدر ما هن أشباح «الاستشراق جنسياً».
في جانب آخر من الكتاب، يأتي السفير على ذكر المطابخ والمؤن وموائد الطعام التي تعدّ للسلطان وحاشيته، بالإضافة إلى الحديث عن عادات وعقائد الأتراك وطقوسهم، ونجد هنا أن الكاتب عند حديثه عن عادات المسلمين العثمانيين لا يأتي على ذكر كلمة «مسلم» بل يذكر كلمة «تركي» بدلاً عنها، وهي تسمية سادت كما يبدو بشكل أساسي بعد سقوط القسطنطينية، إذ غدا اسم تركي مرادفاً لكلمة مسلم، خاصة بعد أن شكّل العثمانيون تهديداً عسكرياً لأوروبا الشرقية والوسطى.
وكانت الحياة الدينية عند العثمانيين آنذاك من الأمور التي ذكرها المؤلف في كتابه، فرغم الملاحظات السابقة على نص الكاتب، إلاّ أنه قدّم قراءة إثنوغرافية جيدة حول الصلاة عند الأتراك وشروط الطهارة التي لا تجوز الصلاة بدونها، ولأجل ذلك – بحسب الكاتب- لطالما بنى العثمانيون الحمامات العامة والخاصة بوفرة في جميع المدن وجميع الأماكن، ومن الأمور الطريفة التي يسجلها المؤلف في هذا السياق، قناعته بأن الأتراك كثيراً ما كانوا يُقبِلون على الصلاة الجماعية في المساجد، ليس لأسباب تتعلق بالأجر والثواب الأكبر أو شروط الصلاة الجماعية، بل لكونهم لا يجيدون اللغة العربية وبالتالي لم يكونوا قادرين على الصلاة بمفردهم، حسب تفسيره.
الترجمة والخيانة: هل هي علاقة حتمية؟
وقبل العودة إلى المقدمة الطويلة للكتاب، لا بد أن نشير هنا إلى أن المترجم لم يخن كاتب النص كما يحدث في بعض النصوص المترجمة، خاصة أن المترجم كان حريصاً على بذل الجهد الكبير في ترجمة النص، من خلال ترجمته وتحقيقه للمخطوطة الأصلية للنص، ومن ثم مقارنتها ببعض المخطوطات المطبوعة التي تعود لسنة 1871، إلا أن الأمانة والدقة على مستوى ترجمة النص لم تقتصر على هذا المستوى، بل نجد أن المترجم بقي وفياً للدلالات السياسية والجنسية التي رسمها بون عن رعايا الدولة العثمانية. فيذكر المترجم أن السفير بون جمع ملاحظاته (خاصة تلك المتعلقة بالحريم السلطاني) كما يدّعي من خلال قدرته على الدخول إلى البوابة الثالثة حيث الغرف السلطانية، منتهزاً غياب السلطان أحمد الأول أثناء خروجه للصيد، بتواطؤ أحد مسؤولي القصر. ورغم أن المترجم بدا في البداية متشككاً بهذه الرواية، إلا أنه سرعان ما عاد ليندمج مع السرد التشويقي لقصة الكشف عما يدور داخل جدران القصر، من خلال بحثه عن أي حوادث تاريخية تدعم حكاية ولوج الغريب إلى داخل مخدع الحريم، ولذلك يرى «أن الدبلوماسيين الأجانب لطالما لاحظوا ازدياد ظاهرة الرشوة بين العثمانيين، كما أدركوا أن الهدايا هي الوسيلة الأنجع لتيسير العلاقات واستقصاء المعلومات». نجد أن المترجم يقدم شروحاً جديدة لكتاب بون من خلال التأكيد على أنه لم يكن بالإمكان للرجل الغريب (الأوروبي) أن يكتشف حالة الفساد الجنسي التي كان يعيشها قصر السلطان، لولا حالة الفساد الأخلاقي التي أخذت تنتشر بين العثمانيين، أو بشكل أدق لعل بون استطاع أن يكشف عن حالة الفساد الأخلاقي (الرشوة) كما يشير إلى ذلك المترجم، التي كان يعيشها المجتمع العثماني آنذاك من خلال حكايا البورنوغرافيا الجنسية داخل القصر، و»شراء الإماء من جميع الديانات والانتفاع منهن في كل الأشياء التي يرونها مناسبة، وهذا ما لا يستطيع فعله المسيحيون واليهود»، أو من خلال حكايا مسيحية قروسطية عن الحياة الجنسية في الجنة التي يتناولها الأتراك في معتقداتهم والذين هم بحسب بون «فاقدون للنور الروحي الذي وهب للمؤمنين، لذلك فإنهم يعتقدون أن الحياة الأبدية في الجنة مكاناً لملذات الأنفس ومتع الحواس». وبالتالي نجد من خلال هذا الربط أو التأويل الجديد الذي يقوم به المترجم حول مدى صحة رواية دخول السفير إلى القصر وربطها بالفساد الأخلاقي (الرشوة) التي أخذت تنتشر بين العثمانيين، وفقاً لملاحظات الدبلوماسيين الأوروبيين ما يذكّرنا أو يدعم – دون أن يقصد المترجم ذلك حقيقة – فكرة استشراقية انتشرت مع بدايات القرن السادس عشر، وهي فكرة تنظر إلى الفساد الجنسي في الشرق بوصفه يعكس حالة فساد عامة مستوطنة لدى السكان الأصليين في الشرق. وهي فكرة أشار إليها أرفن شك في كتابه السابق عبر القول «كان يُنظر في السابق إلى السكان الأصليين للعالم الجديد، رجالاً ونساءً، على أنهم طاهرون وأنقياء وبسطاء وطفوليون، ولقد استُغني عن هذا التصور بسرعة عندما تطلبت النفعية السياسية أن يُعاد وضع السكان الأصليين في دور النهابين القساة والعنيفين» (الاستشراق جنسياً).
ورغم أن المترجم يسجل في مكان آخر من المقدمة بعض الملاحظات السريعة حول قصص الحب والتشويق الجنسية في كتاب بون، إلا أنه يتجاهل هذا الجانب حين يحاول التأكيد على فكرة أن الكتاب «يعدّ عملاً فريداً في شكله، فلا يكاد يدخل في باب التقارير السفرية أو الدبلوماسية أو الرحلات الرسمية، فهو يقدم عرضاً للحياة السياسية والإدارية في القسطنطينية، ويعرف بالجوانب الاجتماعية والاقتصادية، ويتوقف عند العادات الدينية منها والتقليدية». ورغم وجاهة بعض الملاحظات التي يقدمها لنا بون – مثل حديثه عن اثنوغرافيا الصلاة – ورغم القناعة التي نتشارك فيها مع المترجم حيال عدم النظر إلى الدراسات الاستشراقية بوصفها مشاريع استشراقية أو كولونيالية حسب، وإنما ضرورة النظر إليها كمشاريع بحثية يمكن الاستفادة منها أيضاً، إلا أن هذا لا يعني أو يلغي ضرورة الكشف عن هذه الجوانب الاستشراقية، بدل السكوت عنها بدعوى أنها نصوص «فريدة»، خاصة أنه، وكما يشير أرفن شك (الذي اعتمدنا على ملاحظاته في هذا السياق) حتى الأعمال الجادة والعلمية ظاهرياً (حيال الشرق) قد عبثت بلا خجل بالإيروتيكي، ولذلك فإن القول إن موسوعية النص تشفع للكاتب بعض الخيالات الاستشراقية الجنسية يبقى قولاً غير دقيق بحسب أرفن شك، لأن هذا الأسلوب المسحي الذي ينتقل من روايات نظام الحكم مروراً بالسلوك والتقاليد والحياة الجنسية، لطالما عدّ أسلوباً يتبعه الكتاب الأوروبيون، من أجل رفع موثوقية ما يكتبونه. وبالتالي لا بد من تفكيك هذه الصور الاستشراقية، خاصة أن أرفن شك لطالما اعتقد أن هناك علاقة متينة بين الموسوعي والإيروتيكي في كتابات السفراء والرحالة والأوروبيين، أو بشكل أدق يمكن القول إن هناك جذوراً إيروتيكية/ غيرية للأعمال الموسوعية حول الدولة العثمانية (والشرق عموماً) وذلك في سياق بناء الاختلاف مع الآخر. ولعل في المقارنات التي يشير إليها اتفيانو بون، والتي أتينا على ذكرها سابقاً، بين شراء الجواري والزواج بهن في القسطنطينية (عالم الأتراك المسلمين) أو الحياة الجنسية في الجنة /وفقاً لمعتقدات الأتراك/ وبين نفي حدوث هذا الأمر داخل العالم المسيحي ما يؤكد على سياسات الاختلاف الثاوية في هذا العمل الموسوعي، والتي صيغت بلغة إيروتيكية.
٭ باحث سوري
محمد تركي الربيعو
اللغه الايروتيكيه . ختامها مسك