سرديات هجرة الشباب: الخروج من سياقات الذل والمهانة

حجم الخط
0

أحمد الضامن: عندما سأل معلم المدرسة صفه قبل 22 سنة عن مستقبل البلد العربي الذي يعيشون فيه، أجابت صديقتي، وهي طالبة في الصف العاشر (16 عاماً): «سيهاجر الجميع خارج البلد»، فغضب المعلم وطردها من القاعة.
قبل عدة أيام كنت أقول لوالدتي بأن أغلب من أعرفهم من الشباب في العشرينيات والثلاثينيات يتمنون الهجرة إلى الخارج، وخصوصاً إلى أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا. فسألتني: «ولكن لماذا يرغبون في الهجرة؟». استغربت من سؤالها في البداية، فقد كنت أرى رغبتهم في الهجرة أمراً طبيعياً في ظل الظروف الراهنة التي تعيشها منطقتنا. اتضح لي في ما بعد أن السؤال في الواقع سؤال مركب. فهناك خياران أساسيان أمام كل فرد منا في هذه المرحلة: إما أن يبقى، و»تنبت من العفن وردة جميلة» كما يقول والدي الذي تخطى السبعين من العمر، عندما يطرح أحدهم عليه سؤال الهجرة، أو أن يسعى لخيار أفضل في الخارج، خصوصاً بأن مستقبل بلادنا ينبئ بما هو أسوأ في السنوات المقبلة.
جميع من اخترت نتفاً من سير هجراتهم، لن يركبوا قوارب الموت في البحر، لأنهم ما زالت لديهم القدرة على الحياة في بلدهم، ولا يعيشون في مناطق خطر مهلك، لكنهم ما زالوا يفضلون هذا الخيار.
الشاب (م) درس في مدارس دولة خليجية، على الرغم من كون أصوله تعود إلى بلد عربي آخر، وكان محيطه ينبع بالأفكار السلفية التي أثرت عليه، وتشدد بعض الأقارب والمعارف من حوله. انعزل لفترة استغل خلالها تطوير مهاراته فأثمر ذلك وخرج بإنتاجات فنية. ثم عاد إلى بلده الأم، واكتشف أنه يمكن أن يعيش في محيط آخر أكثر انفتاحاً، وأنه لم ينسجم مع الأفكار الذي زرعت فيه في طفولته.
ما زال الشاب يعمل منذ ما يقارب عشر سنوات في نفس المكان، والذي يعلم أنه إن تركه فلن يجد مكاناً آخر يتقبل تخصصه الفني. استغل أصحاب العمل حالة السوق، وقلة حيلة موظفيهم، وضعف القوانين التي تحمي القوى العاملة وتمنعهم من تشكيل نقابات فاعلة في تخصصاتهم المختلفة، فتعذروا بحال السوق ولم يدفعوا رواتب الموظفين منذ 6 أشهر. كما أن سوق العمل في بلده يعاني من البطالة التي وصلت نسباً عالية. يجلس مع صديقه، فيكتشف أن وضعه ليس أفضل حالاً، على الرغم من أنه عاد بشهادة عليا من الخارج، وأن الكثير من أصدقائه ما زالوا عاطلين عن العمل، أو أنهم مجبرون على الاستمرار في عملهم نفسه. يعاني (م) منذ سنوات من الاكتئاب، ويتمنى الهجرة كل يوم.
الشابة (أ) شابة تعيش في بيئة محافظة في قرية منعزلة في إحدى الدول العربية. عاشت طفولتها في الخارج ففسح ذلك أمامها المجال أن تكتشف العالم الواسع، واستطاعت أن تقدم إنتاجاً أدبيا احترافياً. حققت نجاحاً وشهرة محدودة في جزء من محيطها، لكنها ما زالت تعاني من نظرة المجتمع الأعم التي تحجم من قدرات الفتاة وإمكاناتها. تحلم بالهجرة كي تطور مهاراتها إلى مستوى أفضل. أثرت المحسوبيات على فرصها في نشر أعمالها والحصول على فرص لدعم مشاريعها التي تعتقد أنها تستحقها، كما عانت من الجهل المحيط بقيمة عملها وعدم تقدير لموهبتها ممن حولها. ترى منذ سنوات أنه ليس هناك أمل في البقاء وأنه لم يعد لها مكان في بلدها.
الشاب (ص) حاصل على شهادات عليا بامتياز من جامعة مرموقة في الخارج. عاد إلى بلده الذي يحب أملاً في حياة مثمرة، ثم ما لبث أن غرق وطنه في صراع دموي، فهاجر قسراً إلى بلد عربي آخر، ونظراً لسيرته المميزة استطاع (على عكس الكثيرين) أن يحصل على جنسية هذه الدولة على حساب الجنسية الأولى. تفاجأ بعنصرية شديدة اتجاهه من إخوته العرب رغم أنه في بلد عربي شقيق يحمل الآن جنسيته. تم إلغاء مشروعه بسبب الفساد المنتشر، وثم إلصاق تهمة الفساد به، رغم أن الجميع يعلم بنزاهته. رُفِضَت طلبات الهجرة التي قدمها لعدة دول أجنبية بسبب مذهبه وطائفته. ما زال يقوم بتعبئة طلبات الهجرة لعائلته كي يؤمن حياة أفضل لأطفاله.
الشاب (هاء) يعاني منذ طفولته من مشاكل بسبب انتماءات والده السياسية، فقد منعت الدولة التي ولد فيها عنهم الجنسية بسبب انتماءات والده الحزبية. تم تهجيرهم قسراً مع عدد من أقاربهم إلى دولة عربية أخرى، ولكنها تمنحهم إقامة مؤقتة بدون حقوق كاملة، وقد رفضت عدة طلبات قدمها للحصول على الجنسية. كان يعاني لسنوات طويلة من منعه من السفر كي يزور شقيقه الذي ركب قوارب الموت ويعيش في إيطاليا بشكل غير قانوني، لكنه في النهاية استطاع السفر لرؤية أخيه بعد مرور عقدين من الزمن لم يلتقيا خلالها. رفضت كل الطلبات التي قدمها كي يعود إلى بلده الأم الذي تركه رغم أنه لم يسجل له أي نشاط سياسي، كما رفضت أيضاً الطلبات التي قدمها للهجرة إلى الخارج. يخبرني دائماً أنه قلق على ابنه بالذات أكثر من بناته، فأحفاده من ابنه لن يحصلوا على جنسية البلد الذين يعيشون فيه حاليا، وسيعيشون حياتهم تحت عنوان «إقامة موقتة».
الشاب (أ) يعيش في دولة آسيوية منذ عدة سنوات. كان من الذين خرجوا آملين بحياة أفضل بعد ما اصطلح عليه بـ»الربيع العربي» في وطنه. لكنه صدم بعد أن كانت النتيجة أسوأ برأيه مما بدأت، وأصيب كما وصفها لي بحالة من «اللامبالاة والبلادة». تم سجن العديد من أصدقائه، وتعاني منطقته من التهميش المتزايد. قرر ترك جامعته والهجرة إلى أي بلد يمكن أن يصل إليها للعمل، واختار طريقاً سهلاً نسبياً إلى إحدى الدول الآسيوية. لم يتعلم لغة البلد الآسيوي الذي يعيش فيه إلى الآن، وما زال يحيط نفسه بأصدقائه العرب ممن يجدهم في المهجر، كما أنه لم يغير كثيراً من عاداته وأفكاره. رغم محدودية فرص العمل، إلا أنه لا ينوي العودة إلى بلده الأم، وليست لديه رغبة في زيارتها.
الشابة (د) تعمل في بلد أوروبي كخبيرة في مجالها وتقود فريقاً في بحث علمي متقدم. لم تستطع الحصول على منحة من بلدها أو أي بلد آخر لدراسة الماجستير. حصل أقرانها من أبناء المسؤولين والمتنفذين في بلدها العربي على تلك البعثات. استطاعت السفر بعد جهد طويل لدراسة الماجستير، وعانت بسبب ضعف مستوى التعليم للعلوم والرياضيات في بلدها فاضطرت لبذل جهود مضاعفة في دراستها، لكنها حصلت على أفضل النتائج في جامعتها. قامت الجامعة الأجنبية بتقديم منحة كاملة لها لدراسة الدكتوراة. تعلم (د) أنها لن تستطيع العمل في مجال البحث العلمي المتطور في أي بلد عربي ما زال لا يبدي أي اهتمام أو دعم للبحث العلمي في مجالها. تقول أنها تفيد وطنها بشكل أفضل وهي بالخارج، وأنها تعمل ما تستطيع رغم العنصرية التي تواجهها في الدولة الأجنبية. تعاني من الوحدة، ولكنها تعلم أن هذا المجتمع الذي لا تنتمي إليه تقبلها واستغل قدراتها أفضل استغلال. تعلم أنها لن تعود إلى وطنها للعمل في يوم من الأيام، كما لا ترى أي أمل للمستقبل العلمي في بلدها الأم.
الشاب (ميم) تعرض للحجز والإهانة في بلده بسبب تعبيره عن رأيه السياسي المخالف لما ارتأته حكومة ذلك البلد. اختار الهجرة والغربة للبحث عن حياة أفضل، خصوصاً أن جواز سفره يمنعه من ممارسة عمله بصورة طبيعية والحصول على تأشيرة واحدة للسفر، كما أنه كان يخشى من منعه من الخروج والدخول إلى بلده مرة أخرى. لم يعد يؤمن بفكرة الوطن، ويعلم أن العالم أصغر من أن يقسم إلى أوطان جغرافية لها حدود. يقول عن البلد الأوروبي الذي هاجر إليه بأنه مسالم وحيادي ويسوده القانون، خاصة أن غياب القانون قد عاث إلى حد بعيد في بلده الأم. لم يذكر لي في البداية أي سلبية عن البلد الأوروبي الذي يعيش فيه، لكنني عندما سألته أقر أنه يحس بالوحدة ولكنه اعتاد عليها، وأن البلد الأوروبي يعاني من البيروقراطية الشديدة والصورة النمطية تجاه الآخرين، لكنه قرر عدم الوقوف عند هذه السلبيات، وأن الهجرة بالنسبة له كانت إضافة مهمة في حياته.

مخرج فلسطيني

سرديات هجرة الشباب: الخروج من سياقات الذل والمهانة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية