في فصلية «شعر»، العدد 29 ــ 30، السنة الثامنة، نيسان (أبريل) 1964؛ كان الشاعر العراقي الراحل سركون بولص (1944 ــ 2007)، الذي مرّت يوم أمس الذكرى العاشرة لرحيله، قد نشر أولى قصائده في الدورية التي مثّلت تيارات قصيدة النثر العربية. كان بولص قد وصل إلى بيروت، قادماً من كركوك، عبر طرق ملتوية ودونما أوراق شخصية أو وثائق دخول شرعية؛ لكنّ احتفاء مجموعة «شعر» بهذا الشاعر العراقي الشاب كان مشهوداً، في المقابل، فأخذ يرتاد مجالسهم، وكتب مقالات في صحيفة «النهار»؛ قبل أن يغادر إلى الولايات المتحدة، ويقيم في سان فرنسيسكو.
تلك القصائد الستّ، الأولى، شغلت الصفحات 9 ــ 24 من المجلة، والقصيدة السادسة كانت طويلة، بعنوان «قصائد للصيف»، وتألفت من سبع قصائد فرعية. المفاجئ ــ ضمن قراءة راهنة، ارتجاعية وإجمالية تُدرج المآلات الحداثية التي ستطبع مسيرة بولص ــ أنّ النصوص لم تكن قصائد نثر، بل اعتمدت شكل «الشعر الحرّ» الموزون، حسب اصطلاح تلك الأيام، بتفاعيل متغايرة بين قصيدة وأخرى، واستخدام مكثف للقافية أيضاً. على سبيل المثال، يسير مطلع القصيدة الأولى، «إلى المسيح، سطور في الرمال»، هكذا: «آخذُ منه يديه وأعطيه صمت الحياة الطويله/ أقول له أيها الشبح الضائعُ/ أقول له أيها الضائعُ/ أجيء إليك بثوب المنافي، أجيء وأفتح كفّي الهزيله/ وأعطيك صمت الحياة الطويله».
صحيح أنّ «شعر»، منذ أعدادها الأولى وحتى توقيفها، واظبت على نشر قصيدة التفعيلة (لأمثال بدر شاكر السياب، نازك الملائكة، نزار قباني، فدوى طوقان، بلند الحيدري، سلمى الخضراء الجيوسي، سعدي يوسف، أدونيس…)؛ كما نشرت قصائد عمودية (بدوي الجبل، بين أبرز الأمثلة)؛ إلى جانب قصيدة النثر (يوسف الخال، أنسي الحاج، ألبير أديب، ثريا ملحس، صلاح ستيتية، أدونيس…). ولكنّ قبول قصيدة تفعيلة من شاعر شاب لا يتجاوز العشرين، مغمور تماماً في ذلك الطور من حياته الشعرية، كان تفصيلاً له دلالاته الخاصة؛ بصدد سياسة «شعر» تجاه تعايش الأشكال الشعرية المختلفة أوّلاً، ولكن أيضاً بصدد حسن وفادة الأصوات الشعرية الشابة والوليدة، إذْ يُفهم من تبيان المكان أسفل القصيدة (كركوك ــ العراق) أنها قد تكون وصلت إلى المجلة بالبريد.
بيد أنّ الدلالة الأهمّ، حول الملامح الأبكر في شخصية بولص الشاعر الشاب، كانت في يقيني مسعاه الحثيث لردم، أو بالأحرى هدم، الهوّة الكاذبة بين «الشعر الحرّ» و«قصيدة النثر»، أي بين الشعر وأشباهه في عبارة أخرى. ذاك، إذن، دأب عتيق وعنيد قاد بولص إلى البحث عن عشرات الحلول الفنية الكفيلة باستيلاد عمارات إيقاعية رفيعة، متغايرة على نحو مَرِن، وعن طريق استغلال عشرات الديناميات الناجمة عن تطويع العناصر الطباعية والصرفية والصوتية والشعورية. وهذه، وسواها، خيارات وتقنيات ومهارات ينبغي أن يجترحها الشاعر ــ عن سابق قصد وتصميم، كما أرى ــ إذا لم تكن القصيدة ذاتها هي التي تستحثّ عليها، في المستوى التمهيدي من انكباب الشاعر على كتابة نص شعري جديد.
ولستُ أرتاب في أنّ بولص أدرك جيداً ــ ومبكراً، قبل أن يتسلّح بعدّة نظرية عميقة تسعف خياراته الكتابية ــ أنّ القصيدة الجيدة هي تلك التي تستحثّ الشعر وحده، وليس أيّ جنس أدبي سواه، بصرف النظر تماماً عمّا إذا كانت تعتمد أيّ وزن أو تتحرّر من أيّ وزن. ولهذا فإن تلك القصيدة الجيّدة، إياها، لا يمكن أن تكون متحرّرة من نظام إيقاعي ما، أو من ذلك النظام الإيقاعي المحدد الذي اختطه الشاعر هنا في هذه القصيدة، وقد يختطّ سواه في قصائد جيدة أخرى. ما من شعر عظيم دونما عمارة إيقاعية رفيعة تحمل قسطاً وافراً من أعباء الإعراب عن عظمة النصّ الشعري، وما من شاعر جيّد يعطي نفسه حقّ نبذ هذه الأعراف الإيقاعية أو تلك؛ لا لشيء إلا لكي يتحرر من واجب اجتراح واقتراح عماراته الإيقاعية الخاصة، ربما لكي ينبذ كلّ إيقاع!
وبعد 37 سنة أعقبت قصائد «شعر»، نشر بولص في فصلية «الكرمل»، العدد 69، تشرين الأول (أكتوبر) 2001، مجموعة قصائد جديدة، تختلط فيها التفعيلة بقصيدة النثر. كتب، مثلاً: «شمسٌ على هذا/ المشمّع فوق مائدتي:/ نهارٌ لا يضاهيه نهارْ. كوجه الله/ تبقى تحت عينيّ انعكاستُها. وتخرقني/ إلى قاعي كرمحٍ/ إنها شمسي/ وملأى غرفتي، بيتي، كقارب رَعْ/ تسافر في المتاهة/ بالهدايا». كما كتب، في قصيدة نثر: «ربما هي الريح يا سيدي لي دونغ/ جاءت لتسرد علينا مرة أخرى، قصة الطوفان/ قبيلتي تعرفها جيداً، جيلاً بعد جيل/ تعرف مَنْ سيّدُها ومن راويها. تعرف/ أنّ أبطالها أطيافُ طواحين/ حاربها دون كيخوته بضراوة ذات يوم/ اليوم تكفي سعلة طفل خلف جدران الحصار لتنهار/ قبيلتي: هذه الصفحة. هذا القلم. هذا الجدار».
وهكذا فإنّ شعر بولص يعلّمنا نفي الحاجة إلى السؤال، في الشعر العظيم، عن الوزن واللاوزن، الإيقاع المسموع أو الإيقاع الداخلي… وبمثل شعره نفلح في التفريق بين قراءة للشعر تبدأ من معطيات القصيدة ذاتها، وقراءة أخرى تبدأ مما ليس في القصيدة؛ أي، ببساطة، بين الشعر وشبيهه!
صبحي حديدي
لازال بحوزتي قصيده نشرها في مجله مواقف عام ١٩٧٨ ارشا ( في الطريق الى الجمره ) دات اعتبرتها كلام لا يجمعه جامع او هذي ضمن مايسمى بالقصيده النثريه . عجائب القدم اليمنى هكذابدأ القصيده . ومنها جمله تقول يتكلم من خلالي بالسنه يقطعها حالما ينتهي