تثير القصة القصيرة منذ أمد بعيد الأسئلة الكثيرة حول تحديد الشكل الذي تتصف وتختلف به عن غيرها من الفنون الأدبية الأخرى، فهي لا تتمتع بما تتمتع به القصيدة مثلا، أو المسرحية، أو الرواية، من بنية أساسية متفق عليها لدى من يمارسون كتابة القصة القصيرة.
فلو نظرنا في نماذج متعددة من القصص لكتاب مختلفين من عصور متباعدة، لوجدنا أشكالا شديدة الاختلاف بعضها عن بعض، ومع هذا تسمى جميعا قصصا قصيرة. وهذا يعني أن هذا اللون الأدبي لا يحظى بنواة صُلبة تستعصي على التغيير والتحوير، من كاتب لآخر ومن زمن لآخر. وهذه القصص التي تحمل عنوان «سرير بنت الملك» (ضفاف، بيروت ـ 2016) فيها من التنوع البنيوي ما يؤكد هذه النتيجة، فقارئ قصة «مذكرات حذاء سندريلا» يجد نفسه أمام نموذج مختلف عن ذلك الذي يجده في قصة «ميلاد مجيد»، أو «أم الغيث»، أو «بلدي حبيبي»، وغيرها من قصص، اختلافه عن أي قصة من قصص محمود تيمور، أو يحيى حقي.
فمن هو الذي لا يعرف حكاية حذاء سندريلا، تلك التي حظيت بعشق الأمير الذي يريد الاقتران بذات الحذاء الزجاجي البديع؟ لكن شهلا العجيلي لم تحتفظ من سندريلا هذه في قصتها إلا بالاسم، ففي بداية القصة التي يسميها بعضهم (عتبة) مقدمة قصيرة جدا توحي بأن مجندا يبحث عن صاحبة الحذاء المهترئ، الذي لم يبق منه بعد المعارك التي خاضتها سندريلا، إلا أشلاء حذاء، وهذا يؤذن باندفاع السارد راويا عددا من الوقائع، في إيقاع سريع لا يخفي ما بين وقائعه من تداخل، كتداخل حلقات السلسلة، حتى إذا ما بلغ السارد انفصال الكعب عن فردة الحذاء، وسقوطه على أنف الحاكم الراغم، وهو على منصة الخطيب، يتبجح بكلماته المعسولة المكرورة عن المساواة والحرية والعدالة والثوابت.. بعد أن ملأ المكان بالجثث المتناثرة والدم المراق.. وصلت القصة إلى الخاتمة التي توحي بتلك البداية.
فالعجيلي بطبيعة الحال لا تتقيد بالحكاية المعروفة عن سندريلا وأميرها. ولا حتى بصفة واحدة مما وصفت به ونعتت، هي، أو حذاؤها الزجاجي البديع. وهي لا تُعنى أساسا- في ما نظن ونحسب- بإيجاد علاقة ائتلاف، أو اتباع، بين قصتها، وتلك الأسطورة. وإنما تتعمد أن تقيم بينهما علاقة اختلاف وتعارض، ما يعمق إحساسنا بأن هذه القصة تقوم على فكرة لطالما وجدناها في كتابات عدد من المبدعين، وهي الخروج المتعمد على ما هو سائد ومألوف. وذلك تيار قصصي شقَّ طريقه منذ كتب زكريا تامر مجموعته «ربيع في الرماد» 1963، وجمال أبو حمدان مجموعته «أحزان كثيرة وثلاثة غزلان» 1969.
فالتشخيص، في القصة ـ ها هنا- يعتمد على خطوط كاريكاتيرية، هدف الكاتبة فيها هو تقديم النموذج المعروف في غير قليل من التشويه، الذي يعبر بالسخرية السوداء، والمفارقة المضحكة، عن المواقف. فكأن الكاتبة في هذه القصص تتحول من كاتبة إلى رسام كاريكاتير يستخدم السرد القصصي بدلا من الخطوط. وليست هذه القصص الكاريكاتيرية بعيدة عن مواجهة الواقع المأزوم، الذي يعيشه شخوص هذه القصص، وإن كان في استخدامنا لهذه الكلمة (شخوص) ضربٌ من المبالغة، والتجاوز، ففي قصة «ميلاد مجيد» يحلم الأطفال بهدايا العيد، تلك التي سيحضرها لهم – على ذمة الأم – بابا نويل، ويحاول الأطفال النوم تنفيذا لنصائح الوالدة، بانتظار يقظة الصباح، ليجدوا الهدايا متناثرة تملأ الأسرة. لكن شمس الصباح تشرق بلا هدايا، والسبب أن بابا نويل لم يستطع الوصول، فقد اعترضه جدار الفصل العنصري.
بابا نويل- ها هنا ـ يشبه بوجه من الوجوه- سندريلا، في القصة السابقة. فغرض الكاتبة، في ما نحسب، هو الإعلان عن مشاعر الإحباط التي يحس بها هؤلاء الأطفال، وعزو السبب للجدار الذي يمزق ما هو متصل، ويفرق ما هو مجتمع. فجدار الفصل يشبه هنا في وظيفته المعتدين على سندريلا، ويشبه الملتحي في المصعد، ويشبه المدير في الشركة، ويشبه السيدة المتعجرفة، التي لا تدير العنق باتجاه العجوز صاحبة الخضار والقفف، على رصيف الشارع، ويشبه، بوظيفته أيضا، الحاكم الذي يتشدق بالكلمات عن العدل، كلما ارتكب مجزرة جديدة تغرق المكان بدم الأبرياء.
وسواء أكنا أمام حاكم من هذا النوع، أو جدار من مثل جدار الفصل العنصري، فإننا لا نجد إلا قليلا من الفرق، فالحاكم هو الدال، والجدار هو الدال، والشركة المسماة من باب المفارقة «بلدي حبيبي» هي الدال، والحال التي آلى إليها الأهالي في البلاد هي المدلول وهي المرجع وهي المضمون، بكلمات أكثر تفصيلا وأكثر دقة. فعندما ازدادت أسعار المحروقات، عما تحتمله جيوب الأهالي، قرروا استبدال الحطب بالمازوت، ولكنهم، بعد أن استبشروا خيرا بهذا البديل، الذي أعادهم إلى أيام زمان، فوجئوا بقيام الحكومة بمنع (التحطيب) العشوائي، ومنحت شركة «بلدي حبيبي» امتيازا حصريا بالتحطيب، وزيادة الأثمان التي يباع بها الحطب، وإزاء ذلك يتحول السكان، الذين يكاد يقتلهم البرد القارس، لبديل آخر، وهو بقايا الزيتون بعد عصره (الجفْت) الذي يمكن شراؤه من صالمعاصر، بدلا من إلقائه في مكبّات النفايات، وبعد أن فرحوا بهذا البديل المتوهج في مواقدهم، فوجئوا بقيام الشركة نفسها باحتكار بيع الجفت في علب مغلفة وأنيقة ومختومة بشعار الشركة، والتحذير من التقليد، والاستعداد للتوصيل مجانا. وإمعانا في هذا التصوير الكاريكاتيري، يمتنع السكان، بعد أن فقدوا جل الخيارات، عن شراء الجفت المعلب، وقرروا الاستعانة بالطاقة الشمسية، وتركيب أجهزة لهذا الغرض، ولكن فرحتهم بهذا البديل لم تدم أيضا، فقد اتضح أن الحكومة تتخذ من الشركة المسماة «بلدي حبيبي» وكيلا حصريا لاستخدام الطاقة الشمسية وتسويقها، وتبعا لذلك لجأ القوم لخيار أخير، وهو»ألا يستعملوا أي وسيلة من وسائل التدفئة، وقرروا بدلا من ذلك ألا يشعروا بالبرد». وذلك ملخص ما جاء في تقرير اللجنة التي كلفتها الشركة بتحري كساد الطاقة الشمسية والجفت والحطب.
وأما ما يستدعي الانتباه في القصص، فهو اعتماد الكاتبة العجيلي على التواتر، فعلاوة على وجوده في قصة «مذكرات حذاء سندريلا»، وقصة «بلدي حبيبي»، نجده بوضوح في قصة أخرى بعنوان الأخطبوط. فالمدعو محمد إسماعيل، بنظر الجيش الإسرائيلي، إرهابي مطلوبٌ بطريقة هستيرية، لأنه فجر حافلة عسكرية في أحد شوارع القدس. وهو بعد البحث والتحري، تبين أنه متهم بالانتساب لفرقاء متناقضين، فهو في فتح تارة، وفي حماس تارة أخرى، ويقيم في أمكنة متعددة، ومتباعدة. ومطلوب في الوقت ذاته لـ C.I.A لتفجيرة سيارة تقل عسكريين أمريكيين في شارع السعدون في بغداد. ومطلوب لأكثر من جهة في مصر لتفجيره حافلة سياح إسرائيليين في منتجع سياحي في طابا. ومطلوب في الوقت نفسه لقوات حفظ السلام في كابل، لأن مدبري عمليات التفخيخ كانوا يجتمعون في بيته، وهم يخططون للقيام بعملياتهم التي تستهدف جنودا أمريكيين. ووفقا لتقارير مؤكدة هو المسؤول عن تفخيخ سيارة تركت متوقفة قريبا من الحدود الإسرائيلية اللبنانية. وفي أثناء البحث عثر على بطاقة تعريف باسم محمد إسماعيل، في حقيبة مشبوهة لا صاحب لها، في مطار شيكاغو، وتبعا لذلك فإن هذا النص القصصي لا يملُّ، بحكم اعتماده على التواتر، من تعداد الحالات التي يمكن أن تنسحب على المدعو محمد إسماعيل، لذا لا مفر لمن يريد التخلص منه من تفجير العالم، لأنه مثلما ثبت في التحقيقات، موجود في كل مكان، وفي كل زاوية، في الوقت نفسه.
وهذه النهاية لا يتوقعها القارئ، بعد سرد الراوي لما تواتر من شأن محمد إسماعيل بعناوين متعددة ومتكررة، ولذا يفاجأ القارئ بشيء غير قليل من الدهشة. والنهايات في هذه القصص- بصفة عامة – غير متوقعة ومدهشة كثيرا. ففي قصة «عيد مجيد» لا يخطر ببال القارئ أن ثمة ارتباطا بين تأخر بابا نويل بهدايا العيد، وجدار الفصل العنصري. وفي قصة سندريلا لا يخطر ببال القارئ أن ثمة ارتباطا بين اهتراء حذاء سندريلا، وانفصال كعبه، ليحط مثل قذيفة على أنف الزعيم الراغم. وفي قصة «بلدي حبيبي» يُدْهشُ القارئ أن القصة، على الرغم من واقعيتها، تنتهي بما لا يخطر بالبال، وهو أن يقرر الأهالي الإقلاع عن الشعور بالبرد القارس. وفي قصة «رخصة مسدس» يندهش القارئ- الذي تتبع حرص الأخ الأكبر على رشوة كبار المسؤولين بوسائل متعددة ليستصدر رخصة اقتناء مسدس لأخيه الأصغر من باب الهيبة – إن أول ضحايا ذلك المسدس هو الأخ الأكبر نفسه. وفي قصة «سرير بنت الملك» لا يتوقع القارئ أن يكتشف الرجل الذي يقاطع المرأة الكاتبة أنها لا تفتأ تلاحقه، وأن الشطيرة التي يتناولها في وجبة الغداء، قد لفت بأوراق تحمل توقيع تلك الكاتبة، تماما كابنة الملك- التي مع وفرة الاحتياط والتحرز- ماتت بلدغة عقرب سوداء مختبئة في عنقود من العنب.
صحيحٌ أن هذه النهايات تجمع بين الحدة والدهشة، الحدة لأنها مؤلمة، والدهشة لأنها غير متوقعة، ولا مفتعلة، وتتوافر فيها بعض المفارقة الساخرة..
ففي قصة قصيرة جدا بعنوان «أمْنٌ بيئي» تروي الساردة شيئا عن اختلاف أهل الحل والعقد في الدولة المعنية في أيّ الجهات أحق بإصدار شهادة للموفدين، تؤكد أنهم مؤهلون للحياة في باريس، بعد قيام طالب دراسات عليا بقتل عشيقته. فبعضهم يؤكد أن منح مثل هذه الشهادة من اختصاص وزارة التربية، في حين يستخفُّ آخرون بهذا ويرون أن وزارة الزراعة هي الأولى بمنح شهادات كهذه. لكن فريقا لا بأس به لا يوافق على الاقتراحين، وإنما يرى أن وزارة الصحة هي الأولى بمنح تصاريح من هذا النوع. وحسما للخلاف تقرر أن يستخرج الموفدون هذه الشهادة من دائرة الأرصاد الجوية، وقد استمروا على هذا إلى أن فكرت الحكومة بخيار آخر، فأحدثت وزارة جديدة، هي وزارة البيئة، التي أنيطت بها هذه المهمة.
ومن الجائز أن يقال: إن بعض ما تنتهي به هذه القصة، على الرغم من السخرية فيه، نهاية مؤلمة، ولكن الأكثر إيلاما، من هذا كله، هو أن الكاتبة تصور ما يجري من خلاف بين الأجهزة المعنية على أنه «مَسْخَرة» بيروقراطية تكاد تكون هي النمط السائد في إدارة الكثير من شؤون بلداننا، ولاسيما في تراتيب حياتها اليومية. وهذه القصة، كغيرها من قصص، أشرنا إليها، أو لم نشر، تعرّي، بصفة جريئة، واقعنا السياسي والاجتماعي والإداري من قشوره، وهي بقصصها هذه تنكأ الجراح، وتدعو إلى إعادة النظر في كل شيء في حياتنا، إن كانت تتعلق بمتطلباتها اليومية؛ كالتدفئة أو البئية، أو تتعلق بآمالها في الحرية والاستقرار والأمن والتخلص من العنف العشوائي والإرهاب، أو التخلص من الاحتلال وجدُره وحواجزه.
فهي قصص تمثل فسيفساء ترتب فيها شهلا العجيلي أوجاع الإنسان العربي جنبا إلى جانب، في غير تركيز على واحد منها، أو أكثر، في أداء قصصي يجمع بين قوة السرد وسرعة الإيقاع واللغة الأدبية المحكمة المكثفة، التي لا تحفل إلا بالقليل جدا من تقاليد الكتابة القصصية الكلاسيكية.
٭ ناقد وأكاديمي من الأردن
إبراهيم خليل
للاسف الشديد لم يكن للمرأة الكاتبة صوت حقيقي تنقل بكل شكل من الاشكال معاناة واهات وأصوات المجتمع الذي تنتمي اليه فقد سقطت واصطدمت مع الواقع العربي من جهة والاعراف والتقاليد من جهة أخرى وظلت على مر العصور أسيرة للواقع ومن الصعب مواجهة التحديات الشرقية التي تواجهها لكني لاانكر أن هناك محاولات ناجحة لعدد بسيط جدا من الكاتبات اللاتي تفوقنا على انفسهنن وربما حتى على الواقع وبطريقة سلسة وجميلة وهادفة دون التجريح او ماشابه بذلك ..مازالت الكاتبة العربية تخضع للواقع العربي وللرقابة التي لاترحم . لكن اعترف هناك كاتبات رسمن وعالجن الواقع في كتابتهن وأتوقع لهن النجاح وأقتحام بوابة الادب ومن اوسع ابوابه..وتقبل خالص امنياتي.