مر الأدب العربي بمراحل مختلفة منذ عصر الجاهلية إلى اليوم، بدءا من المراحل الأولى الغنائية للشعر، والروائية حيث كان لخلف الأحمر وحماد الراوية ومن على شاكلتهما الفضل الكبير في نقل الشعر- باعتباره الأدب العربي الأصيل – وتوارثه من جيل لآخر ومرورا بعصر التدوين، حيث ازدهرت المخطوطات على اختلاف أنماطها باختلاف العلوم، خاصة في العصر العباسي الثاني وصولا إلى عصر النهضة، حيث ظهرت الآلات الطابعة وازدهرت صناعة الكتاب.
إلا أن الملاحظ في هذه المراحل كلها هو تقبل النخبة من الناس، بل المتلقي ككل للتغيرات الثقافية التي رافقت هذه المراحل، حيث ظلت العلاقة بين المخطوط والكتاب علاقة تدارس ومكاشفة. خلافا لما ستكون عليه الحالة الثقافية عند انتشار الصحافة، وظهور الأدب الصحافي الذي نظر إليه بتعال من لدن مختلف المؤسسات الثقافية كيفما كان نوعها. الأمر نفسه سيعود للظهور بظهور الأدب الرقمي الذي ينظر إليه اليوم بازدراء. فكيف ينظر النقد المعاصر إلى الإبدالات المعرفية المعاصرة؟ وماذا يستطيع الأدب أن يقدمه اليوم؟
الشاعر المصـري صـلاح عبد الصبور في كتابه «قراءة جديدة لشعرنا القديم» تسـاءل فـي أحد الفصول عن جدوى الشعر؟ وقال: عم نبحث في شعرنا العربي؟ واستطرد قائلا «وليس هذا السؤال دليلا على السذاجة، وإلا لما أطلقه كثير من الناس في شتى العصور، فمنهم الفلاسفة والمفكرون والقادة، بل والشعراء». ولا بأس أن ننطلق من هذا السؤال ونستفيد منه قبل الإجابة عنه، عندما نسقطه على نوع من الأدب وهو النقد، فكما تساءل صلاح عبد الصبور، يمكننا التساؤل عن جدوى النقد وفائدته إن لم يكن يباشر قضايا العصر ويكتفي بإسقاط تجارب الأمس على مستجدات اليوم. وإذا كانت إجابة صلاح عبد الصبور عن إشكاله تشير إلى أن الجواب القديم هو إن الشعر لا جدوى منه عند أفلاطون، ولذلك أخرج الشعراء من مدينته الفاضلة، وبعدها يشير إلى قول البعض إلى أن الشعر هو سر الحياة. أما عبد الصبور نفسه فيرى أن مسعى الشعر هو اكتشاف الجانب الجمالي والوجداني من الحياة والتعبير عنه بالكلمات المموسقة، فبدون الشعر، قصائد الحب والغزل لم تكن لتستطيع أن ترتفع بالجنس إلى أفق الحب. وبالعودة إلى نوع النقد الأدبي باعتباره الساهر على دراسة الإبداع ومقاربته، يمكننا التساؤل مرة أخرى فنقول: هل الناقد أصبح اليوم يسعى إلى اجترار خلاصات النقاد القدامى والمحدثين أم أنه يشق له سبيلا خاصا وفريدا؟ وإن كان يمتح من التجارب الأخرى ويستفيد منها. فهل بذلك يكون قادرا على تجديد الدرس النقدي من خلال مواكبة مستجدات الثقافة ووسائل تحصيلها؟
كثير من النقاد نرى أسماءهم على عتبات المجلات والجرائد الأدبية ورقية كانت أو إلكترونية، كما الكتب، إلا أن القليل منهم من يسعى إلى مواكبة التغيرات الثقافية ومعاصرة الواقع الثقافي كيفما كان. ومن النقاد المعاصرين الذين يمكن أن نشير إلى بروزهم في الساحة النقدية العربية المواكبة للإبدالات المعرفية الناقد المغربي سعيد يقطين بمختلف كتاباته التي تسلط الضوء على الأدب الصحافي الرقمي، الذي ينظر إليه بتعال بوصفه لا يرقى إلى مرتبة الأدب الخاضع للمنهج الأكاديمي المتمرس. إذ يقول «كيف يمكننا التعاطي مع الثقافة الرقمية باعتبارها إبدالا معرفيا يجب التعامل معه بوعي جديد يقطع مع قرن من التفاعل السلبي مع الثقافة الحديثة»، وهذا ليس بجديد على يقطين وإنما المتتبع لمسار الباحث النقدي يرى أنه كان مواكبا منذ بدايات الطفرة الإعلامية في الوسط العربي، خاصة مع ظهور القنوات الفضائية بداية التسعينيات من القرن 20، حيث كان يستقرئ في أحد فصول كتابه «الأدب والمؤسسة» علاقة الأدب بالصحافة الأدبية، إذ يتساءل: هل هناك فعلا صحافة أدبية؟ وما دور هذا الإعلام على الكتاب؟ وهل يخدم تطور الأدب أم أنه يحاربه؟ ويضيف: «أول ملاحظة يمكن تسجيلها على الوعي المؤسساتي الإعلامي للأدب بوجه عام تكمن في الازدراء، ويبرر هذا بجلاء في عملية التهميش التي يتعرض لها العمل الأدبي الذي يعتبر ثانويا في العمل الصحافي «. مع العلم أن هذا الكتاب «الأدب والمؤسسة» أصدرته مجلة «منشورات الزمن» سنة 2000.
وكما تحدث « سعيد يقطين» عن الأدب الصحافي باعتباره إبدالا معرفيا في مراحل متقدمة من القرن 20، حاول مقاربة الثقافة الرقمية باعتبارها إبدالا معرفيا معاصرا في كثير من مقالاته في جريدة «القدس العربي» مثلا ومنها: الثقافة الرقمية – سؤال الثقافة العربية، حيث يدعو إلى توفر الناقد على رؤية نقدية، لتكوين مشروعه الأدبي فهو لا يتأتى من خلال الانسلاخ عن الواقع الثقافي ومستجدات تحصيل المعارف ونشرها، وإنما بالاستفادة من التجارب القديمة وجعلها مفيدة في القدرة على مواكبة العصر عن طريق امتلاك رؤية معاصرة تجعل النقد الأدبي يسم فرادته وتميزه من عصر لآخر.
وهكذا بعد أن تعرضنا لأهمية النقد الأدبي عندما يقارب المستجدات الثقافية وما يعتريها من إبدالات معرفية تسعى إلى تحصيل المعارف، فإننا مدعوون لتشجيع القراءة بكل الوسائل، بما في ذلك الوسائل التي ينظر إليها النقد بتعال (كما قال تودوروف منذ زمن)، ومن بينها وسائل التواصل الاجتماعي، فكم من قصيدة يمكن أن تكون نواة لديوان يجسد تجربة ذاتية تحلم أن تعانق المتلقي وتتماهى معه في كشف الواقع، وكم من شذرة تنوء باستعارتها، منتظرة من يأخذ بيدها لتحاور الوجود. لذا نقول إن إعادة النظر في الأدب الرقمي ومحاولة مقاربته تفرض نفسها على الناقد المعاصر، بل حتى المتلقي ككل، بعيدا عن التعالي والازدراء والتهميش، خاصة الأدب الذي ينم عن حذاقة المبدع وقدرته على الإبداع الخلاق.
كاتب من المغرب
مصطفى مزوغ
شكرا جريدة القدس
وقد سمي أيضا أستاذي بالأدب الإلكتروني ,وينعث أيضا بالأدب التفاعلي ,,وهنا يمكننا أن نتساءل أيضا عن المميزات التي جعلت هذا الأدب مختلفا عن الأدب التقليدي لدرجة جعلته يصنف بالنوع أو الجنس الجديد؟؟؟؟؟