■ إن العنف الذي يمارسه بعض المسلمين رداً على الإساءة للنبي وسائر المقدسات قد يوحي بانه دفاع مشروع، وأن الاسلام يؤيد هذا المنحى بقوة، لاسيما وقداسة النبي لا تضاهيها قداسة أخرى من خلق الله جميعاً.
قد تكون كل المؤشرات تعطي للإنسان الغربي تصورا بأن طبيعة هذا الدين هي العنف… كما قد تكون كل المؤشرات توحي للانسان المسلم العادي المعنى ذاته… فالكثير من الفقهاء وهم يمثلون الجهة الرسمية للإسلام كانوا وما زالوا يصرحون بأن سب النبي يوجب القتل.. وهم يستندون إلى بعض الروايات الدالة على هذا المعنى… وقد يتصور الإنسان الغربي أن من نفّذ جريمة باريس، ومن كان له استعداد للانتقام من المسيئين في ضاحية «فيبي جي» الدنماركية وغيرها من البلدان الأوروبية، هو من يمثل محمداً خير تمثيل، دفاعاً عن شخصه المقدس… إنه الانتقام والعقاب الشديد القادم من أتباع دين الاسلام العنيف.
ان الدين بنظر الانسان الغربي وبنظر الكثير من المسلمين المتدينين يرحب بالانتقام والعقاب الشديد كردّ على المزدرين. هذه الصورة هي الراكزة اليوم في أذهان الكثير من الناس بشكل او بآخر. ويبقى السائد ان دين الاسلام هو المتهم الاكبر والضحية العظمى، فالغرب ينظر اليه على أنه دين القتل والعنف والانتقام… اذ لا يبالي بالجريمة لأتفه الاسباب، ومن ذلك الحكم بالموت على من يستهزئ بالرموز الدينية، او من يختلف معه في الهوية ولو كان من الابرياء وحتى الاطفال. «ما أبشع هذا الدين… إنه دين القتل والخراب… لا يتجاوز عن السيئة بل يرد عليها بما هو أسوأ منها بكثير…».
هذا ما يفهمه الانسان الغربي وهو يشاهد مشاهد العنف والقتل الوحشي بدواعي القداسة الدينية.
ويؤيد هذا التوجه التفكير المستشري لدى الكثير من الشباب المتحمس حول ضرورة الانتقام من كل من يمس الرموز الإسلامية بسوء… كما تؤيد هذا المنحى فتاوى الفقهاء التي هي البلية العظمى، باعتبارها المشرع الاساسي للدين بوعي وعلم… إذن أين الخطأ؟
هل الخطأ في الدين نفسه؟ أم الخطأ في توجه الكثير من المسلمين وعلى رأسهم الفقهاء. وكيف نقطع في خطأ أي منهما؟
هل أصاب الفقهاء عندما صوروا لنا فظاعة العقاب لكل من ينال الرموز المقدسة الدينية؟ هل الدين يأمر بالقتل في حالة الإساءة الى شخص النبي او الاستهزاء به او بالقرآن مثلاً؟
أي مصدر يمكن ان نجد فيه ما يشفي غليلنا لحسم هذه القضية، لصالح الجناة القتلة المجرمين، أم لصالح المستهزئين ذوي الرسوم الكاريكاتيرية؟ لصالح الشقيقين سعيد وشريف كواشي، أم لصالح «شارلي إيبدو»؟
ليس من العجب ان نجد الجواب واضحاً جلياً لا غبار عليه لدى القرآن الكريم، لكن العجب فعلاً ان فتاوى الفقهاء وممارسات المسلمين على النقيض من الجواب القرآني تماماً… وكأنهم لم يمروا آياته الواضحة الصريحة بهذا الشأن؟
يذكّرني هذا الحال بما شعر به بعض العلماء من الخجل حول بعض الدلالات المهمة في القرآن، اذ تنبّه اليها بفعل التأثر بالغرب ولم يلتفت اليها أسلافه من العلماء؛ رغم وضوح دلالتها في القرآن. فهذا ما حصل بداية القرن العشرين مع الشيخ حسين النائيني في الوسط الشيعي، ومن قبله وقريب من ذلك مع السيد رشيد رضا في الوسط السني.
إن الغربيين معذورون تماماً عندما يتصورون بن طابع الاسلام يحمل عنفاً، بدلالة ما يشير اليه علماؤه وما يفعله البعض من ممارسات شنيعة. لكن كيف نجد العذر للمسلمين والعلماء منهم على وجه الخصوص؟
ألم تمرْ عليهم أخلاقية هذه الآية العظيمة: «وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا» (الفرقان: 63)
لست بصدد اخلاقية هؤلاء العباد الذين يمشون على الارض بسكينة ووقار، نكاد نفتقدها اليوم في عالمنا الاسلامي تقريباً.. وهي صفة لا تتناسب مع صفات الانتقام والعنف والكراهية والغلظة، بل يكفي التأمل في الاجابة التي يردّون فيها على من يسيء اليهم ويستهزئ بدينهم بالقول (سلاما). وهي الإجابة ذاتها الواردة في قوله تعالى: «وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ» (القصص: 55).
فقد كانوا يتحلون بالصفح والحلم والسلام، وانهم لا يردون بالمثل، بل يقولون خيراً، ومنه قولهم (سلام عليكم).
الآيات القرآنية لم تأمر بمقاطعة الذين أساءوا للنبي والدين والقرآن، شتماً واستهزاء، وربما وصل السب لمن أنزل القرآن، كما يشير الى ذلك بعض المفسرين، انما أمرتْ بالإعراض عنهم حتى يخوضوا في حديث خارج دائرة الاساءة. كما في سورة النساء، آية 140، والسورة مدنية وليست مكية. ومثل ذلك ما جاء في سورة الانعام آية 68. وقد كان المشركون يؤذون النبي وينعتونه بأقذع الهجاء، ومنها قولهم إنه كذّاب وساحر ومجنون بنص القرآن الكريم، ومع ذلك لم يُعرف أنه بادلهم الرد والأذية.
كم تمنيت أن يُرفع أمام كل اساءة للمقدس الديني شعار الرد القرآني: (سلام عليكم سلاما) وأن تكون ملابس المسلمين مرصّعة بنقش هذا الشعار العظيم.
آه.. لو ان ذلك حصل من قبل، بدل الجرائم النكراء، لدخل الناس الى هذا الدين أفواجاً.
لذلك فنحن لا نستحق تمثيل الاسلام او نمتّ اليه بصلة… فقد فشلنا فشلاً ذريعاً ونحن نضرب بأخلاق القــــرآن عرض الحائط، وكم اتمنى أن يلتزم بهذا الدين أناس طيبون من بيئة اخرى غير بيئتنا التي اعتراها الفرقة والظلم والفساد.
ونؤكد أن الأعداء الحقيقيين للاسلام ليسوا جماعة صحيفة «شارلي إيبدو»، ولا سائر المزدرين من ذوي الأقلام والأفلام والرسوم الكاريكاتورية، بل ان الأعداء الفعليين هم أتباعه المجرمون الذين خالفوا أخلاق القرآن ومثله وآدابه الانسانية.. هم اولئك المشرعون للعــــنف والقتل.. هم اولئك المتحمسون للجرائم النكراء التي يندى لها الجبين وتُمارس باسم المقدس الديني، وهم يدنسونه بحماقاتهم الدموية والعدوانية.. وكان الأَولى ان يُعرضوا على الاطباء النفسيين للكشف عن قلوبهم الميتة التي لم يستطع الاسلام إحياءها.. لا سيما أن الكثير منهم قد يكون جديد عهد بالتدين.
بلا شك ان الجرائم التي ترتكب باسم المقدس تجعلنا نشعر بالأسى والحزن العميق، فهي جرائم لا تعرف الحدود، ولا تميز بين البريء والمسيء، فمثلما يُقتل الانسان لإساءته، فانه يُقتل ايضاً على الهوية بلا ذنب، كالذي حدث مع اهلنا الطيبين من المسيحيين والايزيديين بأيدي وحوش لا يُعرف لهم عرق ولا خُلق ولا دين. إنهم شياطين الإنس الذين يظهرون في كل زمان ومكان، وفي كل بلد وملة ودين، اذ تُتخذ الجريمة ذات العنوان، وأول ضحاياها هو الدين نفسه، فهو المذبوح على يد المدنس بغير سكين.
حزننا الشديد لما يقوم به المعتوهون من جرائم بحق أي انسان وإن أساء الى مقدساتنا، ويزداد أسفنا لما تتخذه تشريعات الدول المتحضرة من معايير مزدوجة حول حرية الرأي والتعبير، فمن العار والجريمة ان يهان ويُستفز ما يقارب الملياري انسان بنشر الكراهية والعنصرية بحجة حرية التعبير، فيما تُقيد حريات الرأي حول بعض الحوادث التاريخية واعتبارها حساسة؛ الى درجة ان يعاقب القانون على التشكيك في المسلمات المعتمدة حولها!
أشير أخيراً إلى أنه لو كنت في موقف لا يُحسد عليه؛ بين المسيء للمقدسات بسياساته البذيئة، وبين هؤلاء القتلة من دون موقف ثالث، فسوف لا أتردد في ان أكون مع المسيء البذيء من دون ان الطّخ يدي بقتل الناس جميعاً كما هو صريح القرآن الكريم لمن يقتل بغير نفس.
ألا لعنة الله على الظالمين من أي فئة كانوا… ألا أن اكرمكم عند الله اتقاكم من أي فئة كانوا.
٭ كاتب من العراق
يحيى محمد
قال تعالى: ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ “65” لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ التوبة:66،65
فالاستهزاء بدين الله، أو سب الله ورسوله، أو الاستهزاء بهما، كفر
ولهذا لا يجوز البقاء بين قوم يسبون الله – عز وجل – لقوله تعالى: ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ﴾ [النساء:140].
قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً “57” وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ﴾ [الأحزاب:58،57]
ولا حول ولا قوة الا بالله