نظن أننا أحرار ومستقلون في خياراتنا، سواء في اختيار ربطة عنق أو امرأة. كما يبني رينيه جيرار نظريته حول «الحقيقة الروائية والكذبة الرومانسية». وكل ذلك مجرد وهم رومانسي – برأيه «والحقيقة أننا لا نختار سوى أغراض سبق أن رغب فيها غيرنا». وهذا هو مختصر ما ارتكبه موظف البريد يوسف، إذ لم يكتف بالتلصُّص على حياة عيسى بن حشيد، بل انتحل شخصيته. واستولى على صندوق بريده رقم (1003) الذي تتعنون الرواية به الصادرة حديثا عن الدار العربية للعلوم. وكل ذلك من أجل الاستحواذ على (عليا) مواطنته الإماراتية المقيمة في لندن، التي كانت تتراسل مع عيسى، وتمثل شيئا من مرغوبياته الحياتية.
هذا هو المستوى الحكائي للرواية، التي طرحها سلطان العميمي من خلال نص أفقي، وسرد انبساطي، يكاد يخلو من التوتر الدرامي، إلا أن هذا النص الروائي، على الرغم من بساطته الظاهرية، يتأسس على بنية لسانية متماسكة، وله نسق داخلي شديد الترابط بين عناصره وعلاقاته المنطقية والدلالية والنحوية، حتى لغته لا تجنح للشاعرية بقدر ما تخضع إلى نظام كفيل بإقامة علاقات بين الكلام التواصلي الذي يهدف بدوره إلى الإبلاغ اللفظي المباشر، وإخراج النص ذاته إلى فسحة المجتمع والتاريخ. بمعنى أنه يحيل إلى أحداث متطورة ومتحولة تجري في إطار زمني محدّد ومعلوم الملامح.
إنه نص ينهض على الرغبة بوصفها محاكاة، بمعنى أن الرغبة التي يبديها يوسف إزاء عليا، لم تنبع من ذاته، وهي ليست مؤسسة بقناعاته ووعيه واستقلاليته تماما. إنما بموجب الفضول والهوس بمحاكاة عيسى، أي أنها رغبة الآخر المستعارة، التي تلبّسها يوسف وعاشها كمغامرة شيطانية غير محسوبة. وهو ما يعني أن عيسى مجرد وسيط، تم اختلاقه في مختبر الوعي واللاوعي لسلطان العميمي. وهذا هو منطق العلاقة بين الراغب والمرغوب، حيث يتحتّم وجود وسيط هو المسؤول في المقام الأول عن تخليق الأوهام والأكاذيب في النص الروائي.
على هذا الأساس تمت إماتة عيسى مبكراً، أي في الصفحات الأولى من الرواية. وذلك من أجل تضئيل حضوره مقابل المرغوب، المتمثل هنا في (عليا). فهناك علاقة طردية ما بين المرغوب والوسيط، إذ كلما تمادى حضور الوسيط غاب المرغوب. والعكس صحيح، وبمقتضى هذا الوعي تم طمس شخصية عيسى وإبعاده، لتتجوهر شخصية عليا، ولينبثق الوهم الرومانسي الكبير، الذي يعمل كدافع خفي وراء سلوك يوسف، الذي يبدو في ظاهره سلوكاً حراً، وغير مقيّد بشروط أو استحقاقات، منذ أن احتلا حلبة تفكيره «كحصانين جامحين».
وهكذا أوجد لنفسه مبررات السطو على شخصية عيسى «أنا متأكد أنها ستحزن إن علمت بوفاة عيسى، وستحزن إن لم تجد رداً منه! لم لا أرد عليها كأن عيسى لم يمت؟!». ولأن الرغبة مُعدية بطبعها إذا ما تعلق الأمر بالآخر، صار يراكم الأخطاء تحت عناوين طهورية، حيث تجرأ على خداع حشيد والد عيسى فاستولى على ملف الرسائل المتبادلة بينهما، وتعلم الكتابة على الآلة الكاتبة ليكاتبها حتى لا تلاحظ الاختلاف في الخط. وصار يجوب المكتبات بحثاً عن الكتب ليجاريها في تفكيرها. وكأنه يريد سد كل الثغرات التي تمنع إعجابها به.
اقترف يوسف كل تلك الآثام وتورط في عوالم كان يجهلها، بروح الرومانسي الراغب، الذي يحاول إقناع نفسه بأن رغبته تتوافق مع منطق الأشياء، وأن كل ما يقترفه صادر عن ذات هادئة وواعية تختزن منظومة من القيم. وللتأكيد على هذا المنزع صار يتبادل مع عليا الحديث عن الحياة في الإمارات في تلك الحقبة، يحدثها عن حبه للفنان جابر جاسم، ومعرض الشارقة للكتاب، والشاعر سالم العويس، ونتائج دوري كرة القدم الإماراتي، وسعيد أحمد سعيد بطل الشطرنج الإماراتي. وفي المقابل كان يستقبل منها توصيات ثقافية وفنية بضرورة قراءة غسان كنفاني وتشيخوف وغابريل غارثيا ماركيز وباتريك زوسكند والبرتومورافيا.. وسماع موسيقى فانجالس، وكأنه يتحدث مع كائن أعيدت صياغته هناك، خصوصا في ما يتعلق بالمرأة والإسلام والغرب.
علاقة الصداقة كانت تتعزز في ما بينهما من خلال رسائلهما المتبادلة التي لا تكشف على مستوى الملفوظات أي استمالة عاطفية، إلا أن ظلال المفردات كانت تشي برغبات مكبوتة، حيث كانت عليا تلصق أذنها بباب شقتها لتسمع «صوت سقوط ظرف رسالة عبر فتحة الباب». فيما كان يوسف يفرز شوال بريد الوارد بنفسه ليلتقط رسالتها، وهو يحدث نفسه بوله «بدأت أنتظر رسائل عليا بصورة غير عادية، ولا أنكر أن فضولاً غريباً صار يتملكني لرؤيتها والجلوس معها إن أمكن، هل شخصيتها تشبه كتابتها؟ أظن أنها أكثر مرحا من شخصيتها على الورق، إنه مجرد إحساس لا أكثر».
وعلى إيقاع انجذابه نحو عليا صار يبالغ في طمس شخصية غريمه الميت، يحاول ردمها، وهذا هو منطقه كشخص راغب، منذور لتدمير أي أثر لمحاكاة منافسه، حيث أخفى كل متعلقات عيسى وحاول حتى استبدال زمنه المنقضي بزمن حي، ليثبت لنفسه أن رغبته أكثر أصالة وحيوية من رغبة ذلك الوسيط الصامت.. وأنه أحق بعليا منه، أو هكذا أهّل نفسه بأوهام رومانسية لتغليف رغبته، لكنه لم يتمكن من طمس صورته المحفورة في وجدان عليا منذ أن التقطتها في صفحة التعارف، وهو الأمر الذي أدى إلى انهيار كذبته في موعدهما على العشاء في لقائهما اليتيم في لندن.
ويبدو أن سلطان العميمي قد ابتنى نصه على هذه اللحظة، أي بموجب مخيال جريء على توليد الأكاذيب الرومانسية، وتحشيدها في وعاء نصي يتسع أفقياً ولا ينفجر مهما انحقن بالأوهام، فهو نص يتغذى على الأكاذيب المدّبرة، وهذا هو صمام أمانه السردي، حتى عليا، كانت تتدثر باسم مستعار لأسباب موضوعية، وبالتالي لم تكن قادرة على ادّعاء البراءة والسذاجة في علاقتها معه.. بمعنى أن رواية (ص. ب: 1003) كنص، هي بمثابة كائن بايولوجي ينمو بنمو الأكاذيب المحقونة فيه، وأن أقدار بطلي الرواية مرسومة بمسطرة سردية تحتم ارتداد كل ما يرتكبانه ضدهما. وهو الأمر الذي يفسر افتراقهما بهدوء عن بعضهما بعد أن عاشا كذبة رومانسية مديدة.
إن الإبداع الروائي لا يتحقق إلا نتيجة افتتان، وهو ما يعني أن المدار الرومانسي ذاك كان يحتاج إلى ما هو أكثر من الأسلوب الرسائلي الحميم، وهذا هو ما يفسر أيضاً لجوء سلطان العميمي إلى استنطاق كل الموجودات المتواطئة على تلك الكذبة الرومانسية. فكل ما في الراوية ينطق، وله لسان ووعي وإحساس: صندوق البريد، الطابع، الآلة الكاتبة، طاولة المقهى، ظرف الرسالة، الورق، حقيبة السفر، مبنى البريد، كيس الرسائل البريدية، غرفة عيسى، البطاقة البريدية، دفتر الرسائل، القلم. وكأنه يريد القول إن تلك المتوالية من الخدع ليست صادرة من (أناه) الراغبة، بل موزعة بعدالة وحب ورهافة في كل متعلقات الحياة.
ولا شك أن عليا كانت أغلى أوهام يوسف، بالمفهوم البروستي، الذي يشكل بالضرورة امتداداً لوعي سلطان العميمي، إلا أنه استغنى عن ذلك الوهم ببراعة لافتة وفضل أن تنتهي الرواية بوتيرتها الانبساطية، وكأنه يسير على حافة هاوية أفقية لتنبثق من جنبات النص سيرة كائن بسيط يراقب العالم باندهاش من بلدته الصغيرة
(الذيد) ويسرد بها، ككلمة وحي، الكيفية التي تشكل بها وعيه وإحساسه بذاته، بهويته، بوطنه، بالمرأة، بالآخر وبالعالم، حيث كان صاعق الاغتراب الوقتي كفيلاً بتفجير الحنين إلى مكانه وكأنه قد جعل من تلك المرأة وسيطاً جديداً أو مضاعفاً بمعنى أدق، لينحت تمثال لهفته لوطنه «ترى كيف سيصبح شكل هذا الحنين لو أني بقيت هنا لأشهر؟».
٭ كاتب سعودي
محمد العباس