منذ أن شق العابرون البحر بأنفاس الحقد وتعربشوا على مراكب تحمل عمرا من أضغان السنين، مرتلين أساطير أرض الميعاد، بدأوا بقتل الفلسطينيين وتشويه أرض فلسطين، لم يكفوا عن القتل وعن ابتلاع الأرض يوماً، ينشدون بناء امبراطورية الموت العنصرية على أرض تمتد من النيل إلى الفرات. ارتكبوا المجازر فصار من الصعب عدها عبر تاريخهم، لأن كل لحظة من وجودهم فوق أرض فلسطين هي مجزرة بحق الأرض والإنسان والتاريخ، هي مجزرة بحق القانون الدولي ومواثيقه.
أمام كل مجزرة وموت للفلسطينيين، وأمام كل انتهاك للأرض والإنسان، كان الفلسطينيون يصيحون: أين العالم؟! أين القانون الدولي؟ أين مجلس الأمن والأمم المتحدة؟ وكان الصمت حينذاك يصم الآذان، ولا من مجيب غير التواطؤ والإدانة المجللة بالخجل، وأمام هذا التواطؤ مع القاتل ومع المحتل كان الشعب الفلسطيني والعربي عموماً يكيل اللوم والشتائم، ويضع كل أسباب الهزيمة والذل والموت على من يصمتون على جرائم الصهاينة، وتماديهم في الخروج عن الحق وعن القانون الدولي ومواثيقه.
عندما تصير الانتهاكات والقتل والاعتقال ممارسة يومية بحق الفلسطينيين، ماذا يمكن أن نقول للعالم وبأي لغة نتحدث، ونلوم من؟ بعد أن أنجزت القيادات الفلسطينية ما كان يخجل العالم من ممارسته اتجاه الفلسطينيين، حيث قبلوا بمبدأ التنسيق الأمني، الذي هو من حيث الجوهر إعطاء من هم تحت الاحتلال مسؤولية حماية المحتل من أنفسهم، فمنذ أن تم إقراره في أوسلو، وتم تفصيل بنوده في طابا، وتطبيقه على أرض الواقع مع دايتون، أصبح الفلسطينيون يدفعون فاتورة الاحتلال للصهاينة على كل المستويات، وأهمها على مستوى أمن الفلسطينيين وضمان حياتهم فوق أرضهم، فلم يعد الفلسطيني أسير العنجهية الصهيونية وأدواتها الأمنية، بل أصبح بين فكي كماشة، فمن طرف أمن السلطة وما يمارسه من قمع على كل من يجرؤ ويقوم بعمل نضالي تجاه الكيان الصهيوني، حتى لو كان سلمياً مثل، الخروج في تظاهرة أو اعتصام أو حتى قول فكرة مخالفة، ومن الطرف الآخر يواجه الأمن الإسرائيلي ويده الطولى في اعتقال واغتيال، ليس فقط لمن يحاولون مقاومته بل استهداف الشعب الفلسطيني بأسره.
وإذ نناقش موضوع التنسيق الأمني، والتركيز على مساوئه وتبعاته على الوضع الفلسطيني بكل نواحيه، فإنما نناقش السلطة الفلسطينية من حيث المبدأ، فمبرر وجود السلطة الفلسطينية واستقرارها، من وجهة نظر الاحتلال، مرهون بهذا التنسيق وفاعليته في حماية أمن إسرائيل، لأن إسرائيل لو شعرت للحظة واحدة أن السلطة الفلسطينية لم تعد ضامناً لأمنها ومكباً لنفاياتها السياسية لقضت عليها منذ زمن طويل، فما بالك لو كانت السلطة الفلسطينية حاملاً حقيقياً لطموحات الشعب الفلسطيني في الوصول لأهدافه في انهاء الاحتلال وبناء دولته المستقلة، اذن لقامت باقتلاعها هي والأرض التي تستند اليها. والتنسيق الأمني بهذا المعنى كان العنوان الرئيسي لمرحلة السلطة الفلسطينية، أو بالأحرى الحالة الفلسطينية بعد أوسلو التي اختصرت بنودها بشكل فعلي إلى التنسيق الأمني. وإذ نتحدث عن اتفاق أوسلو وعنوانه الأبرز التنسيق الأمني، وبيان الحالة الكارثية التي وصلت إليها القضية الفلسطينية بعده، لا يعني رفض المفاوضات من حيث المبدأ للوصول إلى اتفاق يضمن الصالح الفلسطيني، بجوهره المتمثل بقيام دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وضمان حق العودة، بل يعني رفض التنازل في هذا الاتفاق عن الجوهر والانغماس في التفاصيل والشكليات وجرها نحو عبثية اللقاءات التي تزيد الهوة بين الشعب الفلسطيني وحقوقه، فالأرض الفلسطينية مازالت بعد مضي أكثر من عشرين عاماً على اتفاق أوسلو تئن وتصرخ تحت أسنان الجرافات، رغم كل النداءات الفلسطينية والمناشدات العربية والإدانات الدولية، ومازال جيش الاحتلال ومستوطنوه يسرقون الليل من عيون الأطفال، يغتالون دقات قلوب الأمهات عندما يستفقن على طرقات الموت تستحثهن لتسليم أولادهن إلى غياهب السجون، في ظل غياب سلطة كان يجب أن يكون من أولوياتها الدفاع عن أبناء الوطن، مما فرغها من مضمونها النضالي، حيث أصبح المناضلون موظفين، وأصبحت مؤسساتها الأمنية حارساً أميناً لقوات الاحتلال ومداهماته.
إن تقديس التنسيق الأمني وحماية المتعاملين مع الاحتلال وعدم المساس بهم على حساب المناضلين، شوه الروح الجمعية الفلسطينية القائمة على حب الوطن وتقديس العمل الوطني، وخلق حالة من الإحباط وروح اللامبالاة بين الكثير من الشباب الفلسطيني المتوهج عطاء للإنسان والوطن. وإذا كان اتفاق أوسلو حالة سياسية يمكن الخلاف حولها، فإن التنسيق الأمني كأهم فاعل في هذا الاتفاق جرد كل بنود الاتفاق مما يمكن مناقشته والاتفاق عليه بين الفلسطينيين، مما زاد الهوة في الانقسام الفلسطيني الكامن وراء معاهدات المصالحة الرخوة، وأفقد الفلسطيني مصداقيته في إقناع بعض الدول العربية بعدم خوض تجربة التنسيق الأمني، بل وفتح الباب واسعاً أمام كل من تسول له نفسه التعامل مع الاحتلال.
أما على المستوى العالمي، فإن التنسيق الأمني شرعن الاحتلال، وأضفى الشكل القانوني على ممارساته، مهما كانت إجرامية بحق الشعب الفلسطيني، وساهم في تعميق مفهوم الإرهاب المعرف إسرائيلياً على منابر العالم وقوانينه مادامت السلطة الفلسطينية الواقعة تحت الاحتلال مقرة بهذا التعريف، بل يمكن القول، إن تهديد مصالح المستوطنين فوق الأرض الفلسطينية، يردها الإسرائيليون إلى تقصير السلطة الفلسطينية في ضبط الأمن، وأعطاهم فرصة للتنكيل بالفلسطينيين وللعودة إلى ممارسة سياسة المظلومية التي يتبعونها، بحجة أنهم دولة متحضرة تواجه سلطة همجية لا تريد السلام ولا تقر بالمعاهدات والمواثيق، وعلى رأسها التنسيق الأمني. لقد استثمر الاسرائيليون مظلوميتهم أمام العالم والمنظمات الدولية، وأكبر دليل على ذلك انتخاب إسرائيل نائباً لرئيس لجنة تصفية الاستعمار والمسائل السياسية الخاصة.
وهنا تكمن المفارقة الرهيبة التي يعجز العقل أحياناً عن إدراك تناقضها، وهي كيف يمكن للسلطة الفلسطينية أن تتهم إسرائيل بالقتل أو انتهاك القانون الإنساني أو الدولي، وهي الموافقة أصلاً على إعطاء إسرائيل، من خلال التنسيق الأمني، الأداة القانونية لممارسة كل هذه الانتهاكات تحت اسم «مكافحة الإرهاب»، ذلك الاسم المطاطي والهلامي، الذي ينطبق على أي حالة تراها إسرائيل خارجة عن قانونها وتصفها «بالإرهابية».
كيف يمكن أن تتهم القاتل بالإجرام وأنت من تزوده بأسماء من يريد قتلهم! كيف يمكن أن تتهم السجان بالعربدة وأنت تعطيه أسماء من يريد سجنهم؟ كيف يمكن أن تصمت عن الجواسيس والمتعاملين مع الاحتلال وتسجن كل من يقول لا للموت لا لقضم روح الإنسان وأرضه، أسئلة كثيرة كلها برسم التنسيق الأمني وقداسته!
كاتبة فلسطينية
سعاد قطناني
أشكرك على هذا المقال الحسن ،لقد. أصبت الحقيقة
و الله كلامك صحيح