«لم يكن هيناً أن أجد نفسي 1984 واقفةً في أغنى المكتبات العالمية بتراث الإنسان الفكري والإبداعي، مكتبة دار جائزة نوبل العالمية في استوكهولم، التي تضمّ آلافا من الكتب من كل مكان في العالم، وأكتشف أن كلّ ما عندهم من الثقافة العربية، أربعة كتب صغيرة مترجمة! موضوعة لا على الكواليس (الرفوف) المشرئبة بل في درجٍ جانبي صغير!!. قلتُ لل الشاعر التونسي المعروف الواقف قربي: «هذا لا يصدّق يا منصف». وعلمتُ أن حياتي قد ختم الدهر عليها وأني لن أهدأ أبداً. ولم أهدأ. وما زلت أتساءل حتّى بعد نجاح مشروعي وصدور إحدى عشرة مجموعة كبيرة مترجمة وستة كتب حضارية، وعديد من الكتب ذات المـؤلف الـواحد، وترحيب العالم الخارجي بكل هذا، كثيراً ما كنتُ أتساءل كيف ترك ويترك العرب تاريخهم وإنجازهم ضائعاً مجهولاً وكأنّ هذا أمر طبيعي مقبول، كأنه مفروض علينا من السماء…».
بهذا النصّ، أحببت أن أفتتح حديثي عن سلمى الخضراء الجيّوسي التي قرأتها شاعرة عام 1965، وأنا تلميذ بالمعهد الثانوي بالقيروان؛ في عدد من مجلّة «شعر»(الواحد والعشرون ـ السنة السادسة ـ شتاء1962): سلمى الخضراء الجيوسي/ قصيدتان. دخل هذا الاسم العلم، لأوّل مرّة، ذاكرتي حيث شغل ركنا منها ولا يزال. وقد تعرّفت إلى أستاذتنا سلمى بعد ذلك بعشرين سنة أو أقلّ بقليل، وهي تزور تونس، ثمّ لقيتها أكثر من مرّة، سواء في تونس أو في الأردن أو المغرب، أو في جامعة لوند بالسويد عام1984حيث شاركتنا هي والبياتي وحجازي واللعبي والغزي وآخرون الملتقى الأوّل للشعر العربي السويدي.
ودعتني غير مرّة إلى المشاركة في منشورات»بروتا» مشروعها المترامي الغلاّب الذي لا أعرف له شبيها في البلاد العربية، أو حتى عند المهجريّين من العرب. ولقد فعلت عن طيب خاطر، فكتبت لها عن «حقوق الجسد في ثقافة الإسلام» و»قصص الحب عند العرب» و»الشعر التونسي في النصف الأول من القرن العشرين»، وكانت في منتهى الصرامة، كلّما تعلّق الأمر بناحية علميّة في البحث لم تُوطّأ أو لم تُوثّق كما ينبغي أو لم تجئ بالنتيجة المبتغاة. ولا أخفي أنّي تعلّمت من أعمالها مثل رسالتها الجامعيّة التي هي مرجع لا غنى عنه لمن رام معرفة «الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث» و»موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر»، وكتاب لويز بوغان «إنجازات الشعر الأمريكي في نصف قرن» وكتاب آرشيبالد ماكليش «الشعر والتجربة»، و»رباعيّة الإسكندرية»(جزآن) للورنس داريل «جوستين» و»بالتازار»؛ وما إلى ذلك مّما لا تتّسع له هذه الورقة.
هذه الناقدة والباحثة الفلسطينيّة المرموقة التي تنتمي إلى جيل الرّوّاد (السّيّاب ـ نزار قبّاني ـ نازك الملائكة ـ أدونيس ـ البيّاتي ـ سعدي يوسف ـ عبد الصّبورـ حجازي…) ولها آراء جريئة في تجاربهم؛ «طلّقت» الشّعر منذ أكثر من عقدين؛ وتفرّغت منذ عام1980 لترجمة الأدب العربي فأسّست مشروع «بروتا» لنقل ثقافة العرب، وجانب من حضارتهم إلى العالم الأنكلوسكسوني. على أنّني ظللت أحتفظ لها في ذاكرتي بصورة الشاعرة، لا بسبب تلك الذكرى التي سقتها فحسب أو لأنّها تعرّفت إليّ شاعرا لا باحثا، وكان ذلك في كتابي الأوّل «ألواح» الصادر عام 198، وقد روت لي في رسالة خاصّة كيف أنها عادت من تونس بمجاميع لشعراء تونسيّين كثيرين، ثمّ تفرّغت لقراءتها في بيتها في بوسطن، من دون أن تجد ضالتها من شعر يمكن أن يُترجم إلى الأنكليزيّة. وبقي كتابي الشعري الصغير فوق طاولتها، فهمّت بإلقائه وإلحاقه بأشباهه ونظائره، لما وقع في ظنّها من أنّه مثلها قد لا يعدو أكثر من «مسطّح عاكس» يقع عليه ما يقع من بائد العوالم، وينجرف إليه ما ينجرف من أضواء الماضي الشعري وظلاله، وقد أخذ منها التعب؛ ثمّ تردّدت وهمّت به لتظفر فيه ببعض ضالّتها ممّا ترجمته لي في موسوعة الشعر العربي المعاصر. إنّما أحتفظ لأستاذتنا سلمى بصورة الشاعرة، لأنّها شاعرة حقّا.
والشّعر إنّما يبدأ من منتهى القصيدة، ويكون في عقبها أو طرفها. فلا مناص من الإقرار بأنّ القصيدة هي التي تصنع الشّعر حدّا أو مفهوما لا يثبت على حال، وليس الشّعر هو الذي يصنع القصيدة.
تتزيّا هذه القصائد، سواء في «العودة من النبع الحالم» أو ما كُتب بعد هذا الديوان، بذاتها وتستصحبها، وهي تجوس في أدغال ذكرى ما، وتستأنس بها، لكأنّها وشم على باقي وشم، أو كتابة على مطموس كتابة. طرس يُمحى ويُكتب؛ فيحيى وشما كاد يعفى، وكتابة كادت تبلى:
أعبرنا الحدودْ؟/ قد عبرنا. أيعلم عشّاقنا / كم صلاة تلونا؟ وكيف استطالت إلى الضوء أشواقُنا؟ / كم هدمنا على دربنا من سدودْ؟
نحن جُزنا الحدود إلى عالمِ/لا ينام به العاشقونْ /وعبرنا السياجاتِ من نبعنا الحالمِ / حيث كان هوانا الرضا والسكونْ
ودخلنا إلى منبع النارِ/ ماتت براءة أحلامنا /واستبدَّ بنا الساهرونْ
هذا الشعر قيافة فضاؤها الذات؛ تترسم الدارس فتستجلي البقايا وتستجمع الأنقاض، وتفلي النفس عن صور وكلمات، وتحرّك الوهم والخيال في استنساخها واستحضار ما غاب منها وحضر؛ من خافت أجراسها ورجيع أصدائها. حتّى إذا همّت بها الذات الشاعرة تخفّت الصورة وانسربت بين حروف وفوارز وعلامات استفهام وتعجّب وهي تشعّ بنور يتمدّد ليغمر زوايا في الذاكرة محتجبة معتّمة .تجلّي هذه القصائد «حرَفيّة» عالية في إدارة فنّ القول؛ وهي تتبع نسقها بنية ونظاما وتَحْرِفُهُ جملةً وصورةً كما في قصيدتها «حوار داخلي» التي تؤدّيها الشاعرة بواسطة أسلوب «الالتفات» كما يسمّيه العرب، أو «لعبة الضمائر» بعبارة المعاصرين؛ فتعدل من خطاب إلى تكلّم:
ـ وحذّرتها، آه حذّرتها، قلت جاعوا فكان المطرْ/ وقد حصدوا بالمجاعة شوكَ الطريق / أنا اخترت أنشوطتي وحملتُ ضميري إلى المحرقهْ/ وأكذوبة للرياح رويتُ
أتتني العصافيرُ تروي حكايايَ للزنبقهْ / ولمّا رأيتُ الجناحَ بكيتُ
وفي كلّ هذا الشعر، تَبْدَهُنا ذات الثّنائيّة: واحدة تحدّ نظام القصيدة وتضبطه، وأخرى تطلق الصّورة في فضاء المتخيّل وترسلها: «تعذّبتُ لكنْ أكلتُ عيوني…» أو» ولكنْ بنيتُ على جذوتي مرفأ…» وكأنّ حرْص الشاعرة على أن تُفهم، حيث «ينهل الدّالّ من مدلول لا ينضب»؛ يعادله حرْص خفيّ على أن لا تُفهم بسهولة؛ أو أنّ مناهضتها لانسياح الشّكل يعادلها مناهضتها لتقييد الصّورة. والحقّ أنّ «الفهم» قد لا يكون ضروريّا، من منظور جماليّ خالص. ذلك أنّ الشّعريّة الحديثة مقارنة بالشّعريّة الأقدم، تقدّم «الانفعال» بالنصّ على الفهم.
ومن هنا فإنّ شعر سلمى الخضراء الجيّوسي، على قلّته ـ وهي التي أنتجته في مرحلة مبكّرة من عمرها؛ يزوّدنا بمفاتيح الجماليّة التي كانت سائدة عند أبرز شعراء الحداثة في الستينات.
٭ ناقد تونسي
منصف الوهايبي
لماذا يتوقف الشاعر ؟
شكرا استاذمنصف علىالتعريف بهذه الناقة المناضلة
بقي سؤال في هذني هل أكل الناقد اشاعرة في تجربة سلمى الخضراء ؟؟؟