سمكة همنغواي

حجم الخط
2

حتى قططه نالت من الشهرة ما يكفي ليتاجر بها بعض جيرانه، ويذكر أنهم تاجروا أيضا بقطط كثيرة على مدى سنوات على أنها حفيدة لقططه، قبل أن تنشر صحيفة أمريكية خبرا على لسان حفيده على أن جده لم يكن لديه قطط إلا في بيته في كوبا، أما في أمريكا فقد كان لديه طاووس وحيوانات أخرى.
يصبح الرّجل نبيا للكتابة في أرضه، فكتبه يتهافت عليها الجميع، وهي تفرض على تلاميذ المدارس قبل بلوغهم المرحلة الجامعية، خاصة روايته الأخيرة «العجوز والبحر». ولأنه موهبة فذّة وكاتب أشبه بالأسطورة، فقد ظلّ نجما حيثما يحل، واعتبر شخصا خارقا بحكم أنه شارك في عدة حروب وظلّ حيا، إلى أن أطلق رصاصة الرّحمة على نفسه، وأوقف كل ذلك الهراء الذي نسج حول شخصيته، وأنهى أحزانه وكآباته الخاصة إلى الأبد.
همنغواي الذي كان طفلا حساسا وخجولا، نالت منه قسوة الحياة أخيرا، وأرشدته نحو نهاية ذلك الطريق الغريب المعَبّد بالعبثية. لكنّه ترك أدبا مليئا بالتفسيرات العميقة لتعقيدات النفس البشرية وصعوبة الحياة، وسط تلك العواصف الطاحنة التي لا تكاد تتوقف واحدة منها لتعصف ثانية من جهة غير متوقعة.
همنغواي السّاحر الأمريكي الذي كتب بوعيه الكامل وشغفه الاستثنائي، ومزاجيته العالية حتى آخر رمق من حياته، ترك النموذج الأجمل للكتابة، لدرجة أن برنامجا إلكترونيا يعلم المبتدئين الكتابة على الطريقة «الهمنغوية» أطلق مؤخرا ولا أدري كيف صدقه الملايين!
هذا الرجل قيل له في بداية حياته إن باريس وحدها ستعلمه كيف يكتب، فحزم حقيبته وأقلع إليها، وبعد خمس سنوات من الإقامة فيها، سطع نجمه بين كتاب أوروبا وأمريكا وفرنسا نفسها، بل إنّه بدون أن ينتبه منح من نفسه الكثير لباريس لتزداد بريقا في تلك الحقبة. ربما لهذا السبب تشرب باريس نخبه كل ليلة في حانة تحمل إسمه، وتقدم مشروبه المفضل «الفرانش 75» منذ عشرينيات القرن الماضي، وهي الحانة التي ظل وفيا لها، فبقيت وفية له، وحتى «البارمان» الذي يقدم المشروب فيها صنفته مجلة «فوربس» على أنه الأفضل عالميا، قبل أن يصبح فن تقديم المشروب اختصاصا في جامعة السوربون. ولمزيد من الدهشة المكان ذكوري كما كان عليه منذ سبعة وتسعين عاما.
في هذا الصيف يعود همنغواي من خلال صدور ترجمات جديدة لروايته «العجوز والبحر» ويشرح أحد هؤلاء المترجمين الجدد أن «الترجمة أيضا تشيخ» لهذا فإن ترجمة غاليمار الجديدة تنزل إلى المكتبات بأنفاس أقرب إلى أنفاس همنغواي، وهذا موضوع آخر يحلو لي أن أفرد له مساحة خاصة للحديث فيه.هذه الرواية لها مكانة خاصة في قلوب من أحبوا همنغواي، ليس فقط لأنها آخر عمل نشر له قبل وفاته وهو العمل الذي نال به جائزة نوبل بجدارة، بل لأن الحكمة الإنسانية كلها انصبت في ذلك الصراع الرهيب بين العجوز والسمكة الضخمة في قلب البحر. ولا تزال الرواية تدرس ويكتشف فيها الجديد، وهي إن كانت رواية صالحة لكل الأعمار، فإنّها أيضا مليئة بالعبر الجيدة للأعمار كلها. وقد قرأت الرواية عدة مرات في حياتي، وفي كل مرة أجدها تترجم المرحلة التي أعيشها، شخصيا عشت الصدمة في أول قراءة ثم فهمت في الثانية أن كل ما قام به العجوز كان من أجل تحدٍّ كبير لنفسه، وقد نجح في ذلك التحدي سواء نال ما يرضي الناس أو لم ينله، لأنّه حقق في قرارة نفسه انتصارا، أمّا بقايا السمكة فلم تكن سوى تقييم مجحف للآخرين لإنجازه العظيم. أليس ذلك ما يعيشه البعض؟ أولئك الذين تظلمهم الحياة ويصارعون ببسالة من أجل البقاء، لكن لأن لا شهود على مسارهم الحياتي يولدون وينتهون خارج المشهد اللافت للنظر.
عشت كل صراع العجوز من أجل إيصال صيده الثمين إلى الديار، كما لو أنني تقاسمت معه قاربه، وعشت الخيبة القاتلة معه وهو يصل إلى الشاطئ بهيكل عظمي لسمكة عذبته طيلة أيام وليال، وقد كرهت أسماك القرش التي اقتاتت على السمكة في رحلته تلك، وكرهت البحر وما يخفيه من مفاجآت سيئة لعجوز كان كل أمله في تلك السمكة.
كنت حانقة على الكاتب الأمريكي الذي اكتشفته لأول مرة من خلال تلك الرواية، ثم جاءت فرصة عرض الفيلم من بطولة سبنسر تريسي، فأعدت قراءة الرواية، حينها أدركت أني لم أفهمها جيدا، بعدها بسنوات جاءتني الرواية مرة أخرى من صديقة قدمت من أمريكا، فأعدت قراءتها، ويومها أدركت أن لا القراءة الأولى ولا الثانية كانت كافية لأرى مشهد همنغواي كاملا وهو يروي الحياة بكل شراستها ويضعنا أمام الحقائق التي أدركها بعد رحلة طويلة لمس فيها كل بشاعاتها بيديه وجوارحه.
تلك القراءة كانت الأفضل على الإطلاق بالنسبة لي، وهي التي جعلتني أعيد قراءة كتب كثيرة كانت في مكتبتي، إذ أدركت مدى تأثير تقدمنا في العمر في تلقينا للأشياء منها ما نراه ونقرأه، حتى سمكة همنغواي تلك، رأيت من خلالها أمورا كثيرة في الحياة، بدءا بكتابة المقال، وجمع خيوطه، وحصر أفكاره، إلى تأليف نص طويل، وإطلاقه في بحر مليء بأسماك القرش. ألم نبن ككُتّاب آمالا كبيرة على نصوص بعينها، ثم هزمتنا تلك الأسماك المتوحشة بنهشنا حتى العظم؟ ألم تُكافأ أسماء هشّة لم تعرف من الحياة غير الجوانب المخملية منها، وبلغنا الشاطئ ونحن نحمل هياكل عظمية هي كل ما تبقى من إنجازاتنا العظيمة؟ ألم يداهمنا العمر ونحن لا نملك غير بقايا السمكة، وأثقال شيخوخة غدرت بنا في وقت حرج؟
لقد رأيت في تلك القصة كل الإنجازات العظيمة التي قدمها كبار عالمنا العربي فيما استصغرتها الأجيال الجديدة، فكل عجوز يحال على الهامش، وفيما يحمل هياكله العظمية المثيرة للضحك، لا يتبقى له سوى مكابرته الشخصية التي وحدها بإمكانها أن تنقذه من ذلك الإقصاء المقيت له ولكل ما حققه حين كان في أوج عطائه.
كلنا في مرحلة ما نكون العجوز، ولكن في أغلب الأحيان نكون السمكة، وهذا قمّة الإيلام، وطبعا بين كل ما كُتِب وما يكتب، يُعاد سرد التفاصيل بطرق مختلفة، وفي انتظار أن نكتشف ذلك في إبداعات أخرى، لا بأس من قراءة جديدة لهمنغواي.
مات عاشق صيد السمك الذي أتقن فنّ الرواية ميتة هزت العالم أكثر من أدبه، عاش حياة صاخبة، ولم يترك حفنة فيها لم يتذوقها، لم تكن حياته طويلة، ولا قصيرة ولكنه عاش بما يكفي ليعطي لأمريكا أعمالا تصنفها بين الدول التي انتجت أدبا محترما. وأعطانا ما يكفي لنحب الأدب ونزداد يقينا أنه مدرسة حقيقة لخوض غمار الحياة.
لقد أعياه الاكتئاب وقلبه الذي امتص الكثير من أوجاع الناس زيادة على أوجاعه الجسدية بعد حادث الطائرة الذي تعرض له خلال رحلته إلى إفريقيا ما احتمل المزيد.
أعتقد أنه خَبِر من احتكاكه بالبحر أن السمكة هي التي تتحكم في حياة أمهر صياد، ما دامت هي التي تقرر ساعة ابتلاعها لطُعمه، أمّا البحر فهو الحظ الذي يجعله يعود بالسمكة إلى دياره… فقرر أن يخرج من تلك اللعبة رابحا. ترك خلفه بوليتزر، ونوبل، وسيرة حياة غنية ومدهشة، وعصارة تجربته الإنسانية الفريدة، والسمكة والبحر والعجوز والصبي الذي يشبه طفولته ورمى عقله المدبر لكل هذه الإنجازات برصاصة!
عقلي لا يستوعب هذه النهاية.

٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

سمكة همنغواي

بروين حبيب

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبد الرزاق بالحاج مسعود/ تونس:

    مقال ممتع. خلاصات رشيقة لا يتيحها إلا مراس عميق لأدب كوني غنيّ متجدد المعاني. السطر الأخير من مقالك كأنه محاولة لتصحيح خطإ ما في حياة أديب عظيم، وهو ما أراه غير موفّق لأنه خروج بالتحليل من حياة الأدب إلى حياة البيولوجيا.ربما كانت طريقة خروج همنغواي من الحياة جزء أصيلا من نصه الكبير.

  2. يقول سالار برهان المهندس:

    مقال رائع جدا وينم عن ثقافة بروين حبيب وفعلا المقال غني ببعض المعلومات عن ارنست و باريس وفعلا هذا الوصف للعلاقة بين فهم الانسان في مراحل عمره المختلة وخاصة الهدف في مرحلة الشيب و فهم هذا عبر فهم الشيخ و البحر و انتحار ارنست في نهاية حياته شكرا بروين حبيب .

إشترك في قائمتنا البريدية