في وقت مبكر من سنوات سجني في ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته، قرأت رواية «هيجان» لخوسيه لويس دي فيلالونغا، وهي عن اعتقال وقتل شاعر أسبانيا العظيم، فيدريكو غارسيا لوركا، على يد الفاشيين. كان لوركا اسماً لامعاً في سجل من أسماء كانت ترمز في خيالي للثقافة والثورة، ويتماهى بها ذلك الطالب الجامعي الشيوعي الفتي الذي كنته قبل اعتقالي عام 1980. كان لوركا وآخرون، منهم بابلو نيرودا الذي انغمست في قراءة مذكراته في مطلع صيف 1980 بينما كان يفترض أن أتكرس لامتحانات عامي الدراسي الثالث، كانوا معالم بارزة في تراث أحببت أن أندرج فيه وأكون منه. كان نيرودا أول اسم حركي لي في تنظيم شبابي شيوعي في منتصف سبعينات القرن العشرين. كان مكسيم هو اسم رفيق آخر لي، في مثل عمري. لم أكن أعرف جملة واحدة لنيرودا وقت انتحلت اسمه. لكني كنت مفتوناً بنُتَف أسمعها من شبان أكبر سناً، في أواخر عقدهم الثاني، عن الشاعر التشيلي الذي رثا الشاعر الأسباني الذي اغتاله الفاشيون. ما كنت أعرفه يقيناً هو أن الشاعرين من جماعتنا.
كان عمري 14 عاماً، في الصف التاسع، في مدينة الرقة التي كنت أقيم أثناء العام الدراسي فيها مع أخوين لي، أكبر سناً. الرقة، مدينتي المغمورة، ستشتهر بعد 40 عاما بكونها عاصمة «داعش». كم هذا عجيب! ربما يفكر الغريب بأنه يرجح لمدينة متدينة أن تؤول إلى مصير كهذا، سوى أن الرقة لم تكن متدينة إطلاقاً. لم يكن سكانها معدومي الإيمان، لكن لعلهم أقرب إلى الطرف الآخر، السلبي، من سلم التدين في سوريا كلها. ليس الدين وتاريخه وتحولاته ما يفسر وقوع المدينة المنكودة تحت سيطرة كائن مستحيل يسمى «داعش»، بل السياسة وتاريخها وتحولاتها. في سوريا، وفي العراق، وفي أفغانستان قبلهما.
سأصير شيوعياً في عامي الأول في جامعة حلب. شيوعي معارض لنظام كانت علاقته طيبة بالاتحاد السوفييتي، ولديه حزب شيوعي في حظيرته السياسية (صارا حزبين منذ نحو 30 عاماً، ولا يزالان تابعين). كان حزبي معارضاً للاتحاد السوفييتي نفسه، ومتفاعلاً مع «الشيوعية الأوروبية»، وفي تداولنا وقتها أسماء أمثال سانتياغو كاريو وإنريكو برلنغوير. بعد ثلاثة أعوام سأعتقل، وأنا لم أكمل العشرين، وما كان ليخطر ببالي أني سأقضي 16 عاماً في السجن، منها نحو ست سنوات بعد موت الاتحاد السوفييتي نفسه.
لم تعد المدينة فضاء للتعلم والتثقف والاهتمام بالشأن العام. صارت مساحة للرقابة والخوف، أيامها تتشابه ولا تعرف التغير. السماء وحدها بقيت مفتوحة فوقها.
في عمري نفسه تقريباً، كانت هناك فتاة شابة من إحدى قرى حمص، اسمها سميرة، وكانت تتعلم في مدارس المدينة. أبوها شرطي وفلاح، وأمها التي أنجبت أربع بنات، وأربعة شبان، «ست بيت». أبي أنا كان فلاحاً، ثم عاملاً، ثم تاجراً صغيراً، وأمي التي أنجبت بنتاً واحدة وثمانية أولاد «ست بيت» أيضاً.
متأخرة عني بضع سنوات، اقتربت تلك الفتاة من وسط شيوعي مغاير التكوين والتاريخ، معارض للنظام أيضاً. كانت تتطلع إلى عالم آخر، أوضاع أكرم، وكانت الشيوعية وقتها هي الاسم الآخر لعالم مغاير.
اعتقلت المرأة الشابة وهي في السادسة والعشرين، وقضت أربع سنوات في السجن.
وفقط بعد خروجها بتسع سنوات وخروجه بنحو أربع سنوات سيلتقيان في دمشق. هي تريد استقلالاً بحياتها عن أسرة القرار فيها للأب، هو يريد بداية جديدة في الأربعين بعد أن أنهى دراسة الطب، ولا يريد ممارسته.
بعد عامين تزوجا، امرأة ورجل في أول أربعينات عمريهما.
هي تعمل في تنضيد الكتب وإخراجها، وهو عمل كان يدر بالكاد 100 دولار في الشهر، وهو يترجم عن الانكليزية ويحاول أن يصير كاتباً، وبالكاد ينال 200 أو 300 دولار في الشهر.
يعيشان في بيوت مستأجرة في ضواحي غرب العاصمة دمشق، ويتدبران أمرهما. ولهما أصدقاء، من جيل جديد من معارضي النظام، ومن جيلهما أيضاً.
ومثلما هو مألوف في تاريخ اليسار الشيوعي، كان الحزبان الشيوعيان اللذان كانت المرأة والرجل منتسبان إليهما، متنازعين، وعلاقتهما مشحونة بالخصومة. لكن الحاضر المشترك لسميرة وشريكها لم يقتض أن ينفصل أي منهما عن تاريخه الشخصي، ولا عن أصدقائه وشركاء ذاكرته. ينحدران من تاريخين متخاصمين، لكن حاضراً واحداً كان يجمعهما وحلم مشترك.
سميرة جعلت من المنزل المستأجر في ضاحية غرب دمشق بيتاً. وهو ما كان مستحيلاً لو تركت الأمر للرجل الذي بدا مستعداً للعيش مدى الحياة في مسكن يشبه مساكن طلاب الجامعة.
في مطلع خمسيناتهما، كان لدى المرأة والرجل أمل أن يكون لهما بيت يخصهما يوماً ما.
لم يحصل.
وقعت ثورة.
تركا البيت، الرجل أولاً، ثم المرأة. وفي مطلع 2013 أخليت أغراضهما من المسكن المستأجر وأودعت في قبو منزل غير بعيد. الكتب في صناديق كرتونية، والأثاث الذي يُنتفع به تقاسمه أصدقاء.
٭ ٭ ٭
في نظري تشغل سميرة، ومعها رزان زيتونة الحقوقية والكاتبة التي ثوّرت مبدأ حقوق الإنسان، ووائل حمادة زوج رزان، وناظم حمادي الشاعر والمحامي، وقد خطف الأربعة معاً، موقعاً بارزاً في السجل الذي منه لوركا. لا يهمني ما يعتقده أي ورثة رسميين.
أن يكون صراعنا معقداً مثل الصراع الأسباني قبل ثمانية عقود، بل أشد تعقيداً، وأن تخطف سميرة ورزان ووائل وناظم على يد تشكيل سلفي متعصب، لا يغير شيئاً من حقيقة الموقع الجمهوري الذي شغله الأربعة، فضلاً عن سوريين لا يُعدّون.
ما يجعل سوريا تراجيديا عالمية اليوم هو أن السوريين لا يواجهون عدواً واحداً هو طغمة السلطة الأسدية التي تتصرف كمالكة للبلد منذ ورّث الطاغية حافظ ابنه بشار في العام 2000 (تحويل الجمهورية إلى مملكة وراثية هو واقعة لم يعلق عليها أي تنظيم يساري في العالم بحدود ما أعلم)، للسوريين عدو ثان هو المنظمات العدمية الإسلامية التي تولدت عن سد آفاق التطور أمام مجتمعاتنا في العالم العربي خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، وهو ما كان للعدو الثالث، نظام السيطرة الأمريكية البالغ التطرف في المنطقة ومضخة تقويته الإسرائيلية، دور كبير في تثبيته. قوى التوحش الثلاث هذه مترابطة عضوياً، لا يفهم أي منها في استقلال عن غيره.
سوريا هي البلد الذي وقعت عليه الوطأة الأقسى للوحوش أو الغيلان الثلاثة: طغيان أسدي قاتل، سبق أن قتل عشرات ألوف السوريين في مطلع ثمانينات القرن العشرين، وتكوينات عدمية متوحشة مثل «داعش» والقاعدة وجيش الإسلام، التشكيل الذي اختطف سميرة ورزان ووائل وناظم، و«إدارة» الأمريكيين لـ«الأزمة» السورية على نحو أبقى بشار الأسد وتسبب بتحطم البلد، وسهل (عبر سردية «الحرب ضد الإرهاب» النخبوية) وقوع البلد تحت الاحتلال الروسي والإيراني، بقدر ما سهل عالمياً صعود اليمين القومي الأمني، وعودة سياسة الحدود، وتصدر قضايا الهجرة واللجوء والإرهاب أجندة النخب السياسية في بلدان الغرب. أكتب هذه السطور يوم أعلن نجاح دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية. واضح أن العالم جزء من سوريا.
ثلاثي الأعداء هذا شرط مأساوي. أعاق نظام العالم الراهن التغير السوري، فصار لا بد من تغيير العالم من أجل التغير الســـوري. وتــغــيــر العالم يبدو عسيراً كل العسر. سوريا تتدمر لأن العالم لا يتغير.
يرفد هذا الشرط المأساوي العام شرطاً مأساوياً شخصياً أعيشه بعد خطف سميرة. لقد اختطفت امرأتي وغيبت في سياق عملتُ شخصياً على نشوئه، ولم أتنبّه لمخاطره بقدر كاف، ما يعني أني مسؤول عما جرى.
هذا وضع لا يطاق، أسوأ من السجن.
أحاول مواجهة ما لا يطاق بصنع رمزية سميرة ورفاقها، ورمزية قضيتهم، في سياق بناء القضية السورية ذاتها.
الثقافة ميدان أساسي للعمل.
في مواجهة عدو واحد، ربما تكون الحرب منهجاً لكسب الصراع. في مواجهة عدوين، قد تكون السياسة هي المنهج الأنسب. أما في مواجهة ثلاثة أعداء، فالثقافة هي المنهج في رأيي. هذا ميدان للأنسنة وصنع المعنى لا يستطيع أن ينافسنا فيه الأسديون وأسيادهم، ولا العدميون الإسلاميون، ولا الأمريكيون وأتباعهم.
ويقيني اليوم أنه ليس غير العمل من أجل ثورة ثقافية يمكن أن تكون تكريماً لسميرة ورزان ووائل وناظم، ولأخي فراس المخطوف عند «داعش»، وأصدقائي فائق وجهاد المخطوفين والمغيبين عند الأسديين.
هناك حاجة اليوم إلى ثورات في إنتاج المعنى، لدينا وفي العالم، موجهة نحو رفع شأن حياة الناس، كل الناس، وحمايتهم. نظام المعنى «الحداثي» الذي يرانا بدائيين، ونظام المعنى الإسلاموي الذي يرانا كفرة، ونظام المعنى الأسدي الذي يرانا إرهابيين، جعلت حياتنا بلا معنى، فسهلت قتلنا بعشرات الألوف ومئاتها. هذا ما نتحداه اليوم ونتمرد عليه. هذا هو جوهر القضية السورية.
وهذا هو معنى سميرة.
النص هو مقدمة الطبعة الأسبانية لكتاب سميرة الخليل: «يوميات الحصار في دوما 2013»، وقد صدر بالعربية في خريف 2016، وإلى الأسبانية في كانون الثاني 2017.
ياسين الحاج صالح