لعالم الاجتماع الألماني الراحل أولريش بك (1944 ـ 2015) دراسات رائعة عن أحوال المجتمعات البشرية المعاصرة، جوهرها شرح أسباب تعثر التنمية المستدامة وغياب الأمان عن حياة الناس وإحاطة الأخطار بهم. وفي هذا السياق، طور بك مفهوم «مجتمع المخاطر» وعرفه بكونه يبدأ «منذ اللحظة التي تعجز بها منظومات القيم المجتمعية الضامنة للأمن عن القيام بدورها إزاء الأخطار التي أطلقت عنانها اختيارات سابقة».
ويرى أن ظاهرتي غياب الأمن وشيوع الأخطار في المجتمعات المعاصرة تشكلان جوهر الانفصال عن زمانية التحديث المجتمعي. فعمليات التحديث التي تسارعت وتائرها في الغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وصولا إلى النصف الأول من القرن العشرين استندت إلى الوعد الصريح بخلق ظروف حياتية آمنة للمجتمعات البشرية من خلال السيطرة على الطبيعة واستغلال مواردها بصورة تنقل الناس من أسر الخوف الدائم من الكوارث والدمار وانتقام الآلهة (زلازل، براكين، أعاصير) إلى رحابة الحياة المستقرة. وتولى الفكر التنويري مهمة الترويج لدور العلم في التمكين للسيطرة الكاملة على الطبيعة، وفي التقليل من شأن الخوف من ثوراتها وتقلباتها.
غير أن ما حدث في الثلث الأخير من القرن العشرين وخلال السنوات المنقضية من القرن الحادي والعشرين هو أن عمليات التحديث ارتدت على ذاتها، بحيث صارت المصدر الأول والمسبب الأول للأخطار وفقدت بالتبعية شرعيتها القائمة على أساس الوعد التاريخي بمجتمع آمن. ولا يقتصر غياب الأمن هنا على التداعيات الرهيبة لكوارث صنعها الإنسان بصورة مباشرة (ككارثة المفاعل النووي في تشيرنوبيل)، أو رتبها تشويه الإنسان لعمل قوى الطبيعة التي عادت لتخرج عن السيطرة بفعل أمور كالاحتباس الحراري (الأعاصير المدمرة التي يتكرر حدوثها في العديد من مناطق عالمنا المعاصر)، أو يسببها محدودية قدرتنا على احتواء الأخطار المعولمة للتكنولوجيات الحديثة (كفيروسات اختراق وتدمير الحواسب الآلية وتعطيل تدفق الخدمات الأساسية في المجتمعات المعاصرة)، أو ترتبط بنتائج الحروب الأهلية والصراعات المسلحة التي تلقي بأمواج من البشر في بحور من الدماء والارتحال واللجوء وحياة المنافي (وبلاد العرب باتت المصدر الأول لتلك الظواهر الكارثية في عالم القرن الحادي والعشرين). بل يتجاوز غياب الأمن كل ذلك إلى تفكك الأبنية المجتمية ومنظومات القيم التي تضبط سلوك الناس وتفشي ظواهر العنف والإرهاب على مستويات متعددة.
أما فيما خص السياسة، فيذهب أولريش بك إلى أن الدولة الوطنية تواجه تحديات وتهديدات غير مسبوقة. فالنخب السياسية والإدارية التي تدير الدول الوطنية لا تملك ترف الاعتراف بالعجز عن التعامل مع غياب الأمن وإحاطة الأخطار بالناس، وتختلف من ثم هنا عن النخب الاقتصادية والمالية التي تتحرك متخطية لحدود الدول الوطنية وتعرف كيف تصنع من الأخطار فرصا للربح والتوسع والنمو.
وفي العدد الأكبر من المجتمعات المعاصرة لم يعد ممكنا تبرير عجز النخب السياسية والإدارية بالاستناد إلى مقولات «الهوية الوطنية الجامعة» التي راج منذ القرنين الثامن والتاسع عشر توظيفها لحفز الناس على الاصطفاف خلف النخب، ولا تعويلا على المفاهيم الحديثة كحكم القانون ومواطنة الحقوق المتساوية وضمانات الحريات. فالناس جنوبا وشرقا كما شمالا وغربا صاروا يقيمون النخب السياسية والإدارية فقط وفقا لما تقدمه لهم في مجالات كالعمل والتعليم والرعاية الصحية ووفقا للشائع في الدولة الوطنية المعنية من ظروف اقتصادية واجتماعية.
لذا تضطر النخب السياسية والإدارية (حاكمة، ومعارضة أيضا حين تحضر) في سبيل الحفاظ على شيء من المصداقية لدورها كمصدر لتحقيق الأمن والرخاء إلى تقديم وعود متتالية تعلم هي مسبقا أن مآلها الوحيد هو عدم التحقق، إن كالوعد باستعادة معدلات تشغيل الطبقة العاملة في الولايات المتحدة الأمريكية إلى ما كانت عليه سابقا في خمسينيات وستينيات القرن العشرين الذي يكرره ترامب كثيرا، أو كالوعد بالإبقاء على مستويات الخدمات الصحية وخدمات الرعاية الاجتماعية والمعاشات على ما هي عليه اليوم في ألمانيا دون إدخال تغيرات جذرية على القوانين المنظمة لسن التقاعد (باتجاه إطالته) وعلى قوانين الضرائب ألمانيا وأوروبيا، أو كمواصلة الأداء التنموي المرتفع للاقتصاد الصيني الذي أخرج مئات الملايين من الفقر خلال العقود الماضية ويصطدم في المرحلة الراهنة بضرورة التعامل مع الأخطار البيئية والاعتراف بالحدود التي تضعها على تطور صناعي منفلت العقال.
على الرغم من الذعر البادي على النخب السياسية والإدارية في الدول الوطنية، إلا أن مواطن القرن الحادي والعشرين حتى وإن أدرك محدودية فاعلية النخب تلك لا يرغب في التخلي عن مطالبتها بتوفير الأمن النسبي له. ويستمر من ثم في مراقبة أدائها، ليعاقب بعضها حين يتثبت من عدم تحقق الوعود التي أطلقت في الماضي القريب ويعود ليصدق نخب أخرى تعيد إطلاق ذات الوعود بعد أن تحيطها بوجوه جديدة وصياغات لغوية جديدة، وهكذا دواليك.
تصف كتابات أولريش بك واقع خواتيم القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين بأسلوب تحليلي رصين، وأثارت أفكاره عن غياب الآمان وأحاطة الأخطار بحياتنا كبشر نقاشات واسعة تتصاعد أصداؤها كلما تكررت صنوف الكوارث المختلفة وأسقطت المزيد من الضحايا. فقد وصلت عمليات التحديث في المجتمعات البشرية إلى حدودها القصوى، وبدأت في الانقلاب على وعدها التاريخي بتحقيق الأمان وتغييب الأخطار لتصير مسؤولة عن غياب الآمان وتراكم الأخطار التي تتراجع بقسوة قدرتنا على السيطرة عليها أو التعامل معه. عالمنا المعاصر هو عالم تتهاوى به الأبنية المجتمعية التقليدية، وتنهار داخله مصداقية منظومات القيم المعروفة، وتتراجع في سياقاته شرعية النخب السياسية والإدارية التي تدير الدول الوطنية وتعجز عن تقديم ما تعد به الناس من أمن وتنمية مستدامة وتحسن في ظروف الحياة، وتتوالى في ظله معاناة الناس من التداعيات المأساوية لظواهر كالحروب الأهلية وأمواج اللجوء والعنف والإرهاب التي لم تعد أبدا قاصرة على دول وطنية بعينها أو مناطق دون أخرى.
٭ كاتب من مصر
عمرو حمزاوي
متى ترجع لميدان التحرير الحياة ؟
ولا حول ولا قوة الا بالله
مقال جيد ولك الشكر ..لكنني كنت اتمني ان تكتب عن تجربتك في جبهة الانقاذ التي مكنت العسكر في مصر من الانقضاض علي الرئيس الشرعي فقط لانه اسلامي. للاسف اعضاء جبهة الخراب بعضهم ترك مصر للعيش في اوروبا والبعض الاخر يعمل كومبارس او يطبل للعسكر في المحروسة اما من كان وقودا للثورة والحرية فهم يموتون كل يوم في المعتقلات.