سوريا والقانون «شبه الدولي»

هل يمكن اعتبار القضية السورية منطقة رمادية تقع خارج حدود القانون الدولي، ولا تنطبق عليها بالكامل مقررات الثواب والعقاب التي أرساها مؤسسو هذا القانون، واتفق عليها العالم؟
هذا السؤال يدور بخلد الكثيرين، وهو سؤال شائك لأنه يشكك ليس فقط في الجانب النظري من ذلك القانون، ولكن أيضاً بسلسلة المؤسسات التي تفرعت عنه، ابتداء من الأمم المتحدة ومجلس أمنها، ونهاية بالمنظمات الصغيرة العاملة في مجال حقوق الإنسان. هذا السؤال يتحدى أولئك الذين ما يزالون يرون في «الشرعية الدولية» وباقة قنواتها الدبلوماسية حلاً لكل أزمات العالم، ويضعهم أمام السؤال الكبير والمهم: لماذا كانت هذه الدبلوماسية العبقرية عاجزة أمام الوضع السوري وغيره من أزمات العالم؟
القضية السورية تسخر بشدة من ثوابت القانون الدولي التي تأسست منذ اتفاقية ويستفاليا في القرن السابع عشر، على ضرورة حماية هيبة وسيادة كل دولة، وتجريم التدخل في شؤونها الداخلية بأي طريقة كانت، فهي قضية تميزت بتبرير التدخلات بحجج كثيرة وتبريرات متنوعة، حتى أضحت الساحة السورية متاحة للجميع من كل صنف ولون واتجاه. إشكالية أخرى حديثة نسبياً تطرحها القضية بامتياز وهي إشكالية التدخل غير الدولي، أي تدخل أفراد ومجموعات لا يمثلون بالضرورة دولهم، ولا أي جيش نظامي، وهو ما يندرج بالتأكيد تحت بند «المجموعات غير الدولية» الذي استقر مؤخراً في القانون الدولي بعد نشوء تنظيم «القاعدة». لقد حاولت الدول الأقرب التشبث بالشرعية الدولية على اعتبار أنها الحل السحري لكل اختلاف ونزاع، لكن ذلك بدا غير متسق مع واقع الحال، وتسارع التطورات الخطيرة على الأرض، ففي حين كانت تلك الدول الطيبة تشارك في أغسطس 2012 في القمة الإسلامية الطارئة التي أعلنت بوضوح الانحياز إلى مبدأ عدم التدخل «في أي ظرف وتحت أي عنوان» في الشأن السوري، كان الطيران النظامي يقصف بشراسة مدينة إعزاز شمال سوريا بقنابل من زنة خمسمئة كيلوغرام، ما أدى إلى هدم ما يزيد على عشرة منازل وقتل ما يزيد على مئة من العائلات المدنية.
من البداية بدا ما يسمى بالشرعية الدولية عاجزاً ولم يكن لدى القمة الإسلامية ولا غيرها من القمم العربية والأممية التي ستليها أي حل للأزمة، أما التشبث بمبدأ «عدم التدخل» فقد تجاوزه الزمن، بدخول العناصر الجهادية التي لم يوقظها سوى الموقف الدولي العاجز والعربي المتخاذل. تلك التي تناسلت وتطورت منتجة كل صنوف المعارضة المسلحة من معتدلة ومتطرفة، قبل أن يستعين النظام بدوره بالقوى الشيعية الإيرانية، أو المتحالفة معها لينتج كل ذلك لوحة سريالية ظاهرها صراع بين حكومة ومعارضة وحقيقتها صراع قوى كبرى متدخلة ومتداخلة.
كانت قمة هذا السريالية في التدخل العسكري الروسي، الذي تخطى كل الحدود الحمراء، وهو يصر على الوقوف مع حليفه الأسد حتى لو أدى ذلك لاعتبار سوريا جزءاً من ملك بوتين الجديد، والغريب أن الشرعية الدولية التي نتحاكم إليها لم تلجأ إلى ردع المغامر الروسي، بقدر ما لجأت إلى تبرير ما يفعل على أساس المصلحة الوطنية أو محاربة المتطرفين أو غيرها من التفسيرات.
روسيا استندت في تدخلها إلى القانون الدولي نفسه، الذي يسمح لها بتقديم المساعدة في حال طلب منها ذلك، وهو ما حدث حين طلب «الرئيس الشرعي المنتخب» بشار الأسد منها التدخل العسكري لمساعدته على القضاء على أعداء بلاده!
هكذا يبدو المشهد فوضوياً، وخطورة هذه الفوضى تكمن في كونها لن تقتصر على الحدود السورية، بل ستتمدد إلى غيرها من دول المنطقة كتركيا التي اخترقها الطيران الروسي بلا استئذان، ما خلق توتراً إقليمياً كان الجميع في غنى عنه.
الحديث عن تركيا هنا مهم، فهي التي بح صوتها وهي تدعو كل الأطراف المؤثرة إلى خلق منطقة حظر جوي. دعوة استندت إلى روح القانون الدولي الذي يجعل حماية الأرواح الإنسانية أهم أولوياته. تركيا أيضاً، كانت صاحبة الصوت الأعلى استغراباً من سماح المجتمع الدولي لروسيا بتوفير غطاء جوي مهم لعمليات الأسد وأنصاره ضد الشعب السوري. تفيد التقارير التركية بأن الطائرات الروسية لم تكن لتصبح لقمة سائغة في حال حاولت تركيا استهدافها، بل أنها كانت مزودة بما يكفيها للقتال، بل لإسقاط من يحاول إسقاطها، وذلك إن صح فإنه يعني أن روسيا صنعت قبة حماية حقيقية لصالح الأسد، وأن فكرة الحظر الجوي تبخرت إلى الأبد. من جهة أخرى فهناك الولايات المتحدة الراعي الرسمي للشرعية الدولية حول العالم، التي يبدو موقفها مثيراً للشك، حيث يسير التنسيق بينها وبين روسيا، رغم الظاهر من اختلاف معسكر كل منهما، على قدم وساق ويعمل كلا الطرفين بجد من أجل تفادي أي احتكاك قد ينتج عن اقتسام الأجواء السورية، وهنا تبدو محاولة اسقاط أي طائرة روسية فكرة مستبعدة أمريكياً وغربياً.
الظاهر أن أمريكا لا تتنافس مع روسيا في سوريا، فهي على العكس تقلل من وجودها الإقليمي، كما فعلت حين سحبت حاملة طائراتها العملاقة روزفلت من الخليج بداية هذا الشهر، أو حين سحبت بطاريات صواريخ باتريوت المنتشرة في مدينة غازي عنتاب التركية، ما أدى إلى تعرية أمنية لما يفترض أنه حليف تركي.
التشبيك مستمر ومن أجل فهم العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا، فإنه من المهم العودة لما سمي بالاتفاق النووي الإيراني، فهو غير بعيد عن القضية السورية وأكبر دليل على وجود علاقة ما بين ذلك الاتفاق الغامض وإطلاق اليد الروسية في منطقة الشام هو أن بوتين لم يتحرك بهذا الاتجاه، إلا بعد إكمال المصادقة على الاتفاق النووي. من حق الدول الكبرى أن ترعى مصالحها بلا شك. المشكلة الوحيدة هي أنها مكلفة في الوقت ذاته برعاية المصلحة الدولية والقيم الإنسانية والديمقراطية، من خلال المؤسسات التي تمولها والتي نتحاكم إليها مجبرين. أكبر دليل على عجز العدالة والتشريعات الحقوقية الدولية هو حقيقة أن بشار الأسد، وبعد كل ما قام به على الأرض السورية ليس ملاحقاً من قبل محكمة الجنايات الدولية، التي أنشئت أساساً لحماية الشعوب من جور الطغاة والحكام المجرمين بفضحهم وسحب الحصانة عنهم، وهو في هذا ليس مثلاً فريداً، بل معه مجرمو الحرب من الأمريكيين والبريطانيين والاسرائيليين وغيرهم.
القانون الدولي الذي نراه هو قانون عادل ومصاغ بالكثير من العبارات الرنانة والبليغة، لكن مشكلته أنه لا يسري على الجميع ولا يطبق بحذافيره في كل الحالات، لذا فإنني من هذا المنبر أقترح لإخراج الذين لا يزالون يؤمنون به من دائرة الحرج أن نطلق عليه اسم القانون «شبه الدولي». هكذا يمكننا أن نريح جميع الأطراف ونتصالح مع أنفسنا!

٭ كاتب سوداني

د. مدى الفاتح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    القانون الدولي هو للدول العظمى صاحبة الفيتو فقط
    فالمعروف أن مجلس الأمن من يقرر فتح قضايا لمحكمة العدل الدولية
    اذا غابت العدالة حضرت داعش – مقولة للكروي داود

    ولا حول ولا قوة الا بالله

إشترك في قائمتنا البريدية