جدة – المملكة العربية السعودية ـ «القدس العربي»: منتصبا أبيا على صروف الدهر، وشاهدا على أحداث بمجرياتها، يقاوم بشموخ سور جدة القديم العواصف التي تهب من كل الاتجاهات، ويصارع الفيضانات الجارفة، للدفاع ببسالة عن هوية مدينة رمزية لها مكانة خاصة لدى أهل المملكة العربية السعودية وزوارها الدائمين. مشاعر من الغبطة والبهجة تختلج وجدان أي شخص يحط في مطارها، والابتسامة تعلو وجوه من يقترب من مينائها سالما غانما. إنه سحر المدينة الذي تغدق به على الجميع وتبادلهم المزيد من الحب والوفاء، وتمنحهم راحة نفسية ملبية رغبتهم أثناء زيارتهم لها. مطار المدينة لا تتوقف به حركة المسافرين الوافدين من كل دول العالم، ولا تهدأ محركات طائراتها ولا أصواتها العالية. وفود تغادر وأخرى تصل، لتبلغ أقصى درجاتها في موسم الحج، وأثناء عمرة رمضان لتتحول إلى الوجهة المفضلة للمسلمين الراغبين في أداء مناسكهم. قلما توجد أسرة في المنطقة العربية، وفي العالم الإسلامي لم يزر أحد أفرادها جدة، واسمها على كل لسان، وهي محطة عبور أساسية نحو مكة المكرمة يفصلهما خط سريع يستخدمه الجميع. أول ما يحبذ زيارته في هذه المدينة التي تموج فيها أمواج بشرية هائلة من كل النحل والملل، وبسحنات مختلفة هو سورها العتيد رمز فخر أهلها منذ القدم.
مصدر إلهام للمؤرخين والأدباء
يعد سور المدينة الذي أمر ببنائه السلطان المملوكي عام 915 هـ/1509م، منبع إلهام لا ينضب، للعديد من الأدباء والمؤرخين، وأدرجوه في صفحات كتبهم المؤلفة وخصصوا له فصولا، ودارت حوله حكايات. الروائي السعودي المشهور عبد الرحمن منيف أورده كثيرا في مجموعته الضخمة «مدن الملح» وأفرد له حيزا هاما. كما أن الكاتب القطري عبد العزيز آل محمود تناول بالتفصيل في روايته التاريخية «الشراع المقدس» تفاصيل بناء السور ورمزيته وقصته. وتستعرض كتب التاريخ أن حسين الكردي أحد أمراء المماليك في عهد السلطان قانصوه الغوري هو أول من فكر في تجسيد المشروع، وشرع فيه ليكون حصنا للمدينة من هجمات البرتغاليين. كانت جدة تلك الفترة في مواجهة حمى البرتغاليين في السيطرة على موانئ تجارة البهارات مصدر ثراء مدن عدة. بادر الكردي إلى تحصين السور وتزويده بالقلاع والأبراج والمدافع لصد السفن الحربية التي تغير على المدينة. الحاكم المتوج على المدينة أحاط في الوقت نفسه السور من الخارج بخندق، وبمساعدة الأهالي شيد له مدخلان، واحد من جهة مكة المكرمة، والآخر من جهة البحر، مع أبراج تحيطه من كل جانب. ثم فتحت له ستة أبواب هي: باب مكة، وباب المدينة، وباب شريف وباب جديد وباب البنط وباب المغاربة أضيف إليها في بداية القرن الحالي باب جديد وهو باب الصبة. وتم إزالة السور لدخوله في منطقة العمران عام 1947 م. وكان الذين سكنوا هذا السور قبل هدمه عديد من الأسر منهم: أبو الجدائل، الطويل، شحاته، الهاشمي، وجداوي، الحنبولي، البابلي، والسنوسي.
موقعا للتراث العالمي
تعيش المدينة العريقة حركة مذهلة منذ صدرت الموافقة من قبل لجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة «اليونيسكو» يوم 21 حزيران/يونيو 2014 م على تسجيل موقع (جدة التاريخية) ضمن قائمة التراث العالمي. وبدأت السلطات في ضخ ميزانيات ضخمة لاستعادة ملامح البلدة وإعادة بريقها مثل الزمن الأول وصون ذاكرتها. الكثير ممن التقيتهم من أبناء البلد أو ممن أقام فيها واعتبرها موطنه الجديد يحملون في قلبهم محبة لها ومعزتها ضاربة بجذورها في أفئدتهم ويحنون لها ولا يقدرون على مفارقتها. أجانب كثر من جنسيات عدة وجدتهم يعتبرون أنفسهم «جداويين» مثلهم مثل الأسر العريقة في المدينة ولا يتحدثون عن مدينة أخرى سلبتهم أنفسهم مثلها، حتى بلدانهم التي أتوا منها. جهاد وهو مهندس لبناني يعمل في شركة مقاولات مشهورة، أثناء لقائي به في قلب المدينة، لم أقدر بداية على استيعاب هوسه بها، إلا لما أنهيت برفقته جولتنا في ثنايا هذه الحاضرة المليئة بالقصص. يؤكد الثلاثيني أنه ولد هنا، ورئتاه لا يمكن لهما أن تتنفسا غير هوائها، ومهما سافر لسبب ما، فإنه ما يلبت أن يعود إلى بيته هناك. يحمله دوما الشوق على بساط الريح. وكشف لي أن السبل أخذته إلى دولة خليجية جارة لها لم يظل بها سوى أشهر عدة، لينهي عقده هناك، ويعود أدراجه إلى مسقط رأسه. يتجول في أرجاء المدينة القديمة مرفوع الرأس تسارع خطاه دروبها لزيارة كل الأماكن التي له بها ذكريات لن تزول أبدا.
نقطة تلاقي ومركز تلاحم بشري
جهاد بلهجته الأقرب إلى لكنة أبناء المدينة الأصليين، يكشف لي أنه يجد صعوبة في التأقلم في بلده لبنان كلما زاره رفقة أهله منذ كان صغيرا في العطل المدرسية. ويعتبر نفسه في تلك الأيام القليلة بمثابة غريب، حتى أنه لا يمكن أن يتحدث بطلاقة مع أبناء بلده. يستغرب منه أقاربه، حينما يغوص في أحاديث الهوى عن جدة ومآثره هناك وعيشه. ويجد صعوبة شديدة في أن يلغي من أذهانهم الصورة النمطية عن المملكة التي تجول في مخيال أقرانه، ويعتبرونه دوما أنه يبالغ حينما يؤكد لهم أن حياته هناك تخلو من أي تعقيد يتصورونه.
عبق التاريخ
يستذكر جهاد بيتهم السابق حيث ترعرع قرب المدينة التاريخية والذي يعتبره متحفا بذاته فهو يستشعر فيه آلاف الحكايات عمن استوطن جدة منذ القدم. وحوله الحارات العتيقة التي اجتهد أهلها في الاعتناء بها وبزخرفتها مع الاحتفاظ بنمط عمراني رائد.
البيوت متلاصقة وأبوابها متجاورة مع نوافد تسكن الجدران ولا تخرج عنها مطلة على ردهات طرق متعرجة على نواصي معلقة على بعضها نباتات مخضرة على طول فصول السنة.
حياة اجتماعية متناغمة
المدينة القديمة مشهورة بنمطها الخاص، وبهندستها التي تلبي احتياجات سكانها المشهورين بالتجارة منذ القدم، وتتركز حول بيوتهم المساجد. الأسواق تشكل مساحة واسعة منها تتميز بحيويتها وغناها وتنظيمها المحكم. وتشتهر بعضها مثل: سوق العلوي، وسوق البدو، وسوق قابل وسوق الندى. تتميز جدة أكثر عن غيرها من محافظات المملكة بذلك التعايش والتلاحم الموجود بين مكوناتها، وتناغم سكانها واندماجهم مع بعض من دون اعتبارات عدة منتشرة في مناطق أخرى. للبحر وللميناء دور أساسي في تعزيز هذه المقاربة، فدوما هي المدن الساحلية أكثر تقبلا للتعايش ومصدرا رئيسا لإشاعة روح تقبل الآخر وإزالة الكثير من الحواجز.
شريان حياة المدينة
منذ تأسيس ميناء هذه الحاضرة الخصبة، ليستقبل حجاج بيت الله الحرام في عهد الخليفة عثمان بن عفان سنة 647، صنع الأخير الفرق في حياة المدينة التي تنسب حسب بعض الروايات إلى جدة بن جرم بن ربان وهو أحد مشاهير العرب قبل الإسلام، ولد فيها فسماه أهله باسمها. جهاد يعتبر أنه هناك رواية أخرى تتحدث عن أصل اسم مدينته المشتق من جَدَّة بفتح الجين. وتنسب التسمية لأم البشر حواء التي يقولون أنها دفنت في هذه المدينة التي نزلت إليها من الجنة بينما نزل جدنا آدم في الهند والتقيا عند جبل عرفة ودفنت هي في جدة. وتوجد مقبرة في المدينة تعرف باسم مقبرة أمنا حواء.
مهرجان عالمي
يزداد تردد اسم المدينة إلى جانب زوار بيت الله الحرام طيلة مهرجان «جدة غير» الذي يعد من أهم الأجندات المميزة في المنطقة. يستقطب اهتماما واسعا من قبل الجميع. وتعمل السلطات دوما على أن تكون المناسبة فرصة لتسجيل اسم جدة في الخريطة الدولية للمهرجانات العريقة وترعى فعالياته جهات عليا موفرة له الإمكانيات اللازمة لنجاح دوراته المتتالية. وتستقطب فعاليات المهرجان جمهورا واسعا وعريضا وهو أحد المتنفسات المهمة التي يحرص الكثيرون على عدم تفويتها. وازدادت أهمية المهرجان منذ إعلام اليونسيكو تسجيل اسم المدينة في قائمة تراثها في سبيل استعادة أمجاد جدة وإحياء معالمها الأساسية لتكون حاضرة ينفس عنفوانها السابق. وضمت أخر دورة من المهرجان التي تم تنظيمها تحت عنوان «شمسك أشرقت» نحو 90 فعالية تراثية وترفيهية وثقافية وتسويقية. وتحول المهرجان منذ ذلك التاريخ إلى أحد الخطوات المرتسمة في درب تأصيل هوية منطقة جدة، وحث أهلها ومالكيها على الاهتمام بترميم مبانيهم وإعادة نبض الحياة إليها، والعمل على المحافظة عليها باعتبارها تراثا لا يقدر بثمن، والإسهام في تعزيز مشروع جدة التاريخية. وتنعش حركة المهرجان التجارة التي هي أصلا رائجة في هذه المدينة وتعززت أسواقها بمجمعات هائلة تعرض مختلف أنواع السلع الواردة من كل دول العالم وتشكل مصدر تسوق رائد للكثيرين يقصدونها دون غيرها ولم تؤثر على مكانتها كثيرا الأسواق الناشئة حولها في المناطق والدول المجاورة ولم تفقدها أهميتها مهما على شأن الأخرى واكتسبت من زخم إعلامي.
استعادة وهج المناطق القديمة
جهاد يؤكد أثناء جولتنا على ضرورة زيارة الأحياء القديمة واستكشاف أسمائها وتقسيماتها التي اكتسب بعضها شهرة واسعة مثل حارة الشام في الجزء الشمالي من داخل السور وتمتد من «كدوة عواد» شرقا وحتى الجزء الغربي من السور الواقع بين مبنى البحرية، حيث يتميز ببيوته العريقة ذات التصاميم القديمة وأشكالها التراثية وهندسيات التي تعكس ذوق أهلها وغرامهم بجماليات العمارة العربية. استخدمت في تشييد المنازل الفخمة البهية أحجار نقية منحوتة بدقة معدلة يدويا تتناغم مع خشب صاف استورد من الهند. وكانت الحجارة ترص بشكل بديع لتوزع على الجدران تمنح المباني وهجا مضيئا. يصل ارتفاع بعض المباني التي ما زالت حتى الآن تحتفظ بأسماء أصحابها، أكثر من 30 متراً، كما ظلت بعضها لمتانتها وطريقة بنائها باقية بحالة جيدة بعد مرور عشرات السنين.
عوالم مختلفة
في الجولة التي قمنا بها في المدينة كانت تظهر بوضوح تلك الفروق في عوالم جدة بين أحيائها ذات الفخامة والوجاهة والمناطق العشوائية التي لا تزال السلطات تعمل على تطوير بنيتها التحتية وكثيرا ما يفجع السكان بالضحايا الذين جرفتهم السيول التي تجرف أحياء بأكملها وتغرق مناطق عدة وتحصد خلفها دمارا مهولا لا يزال حديث الناس. يحاول مرافقنا أن لا نعلق كثيرا في وحل هذه الفوضى المحيطة في تلك المناطقة ليقودنا مباشرة إلى الميناء مصدر رخاء المدينة ومصدر سعادة الكثيرين العاشقين لبحرها الأحمر الغني الذي لا يستغني جهاد عن قضاء أوقاته فيه وعطل نهاية الأسبوع في ثناياه يسبح أو يصطاد سمكه الوفير أو يغطس في محيطه.
يعتبر عشاق جدة أن الميناء هو السمة الأساسية في المدينة منذ القدم وهو الذي نحت بدقة تلك السحنات البارزة على محيا السكان الوافدين من مختلف الأصقاع وانصهروا فيها وخلفوا ورائهم إرثهم السابق ليرتدوا لبس البلد ويعتنقوا نمط المدينة الجديدة التي استوطنوها وساهموا في عمارتها.
يستعيد جهاد ورفاقه أبناء البلد كلما قصدوا الشواطئ التي أغرموا بها، قصص البحارة الذين كانت تحملهم السفن منذ القدم إلى ميناء المدينة.
يستعيدون باستمرار صورهم وفرحتهم وهم ينزلون مرساة مراكبهم والعرق يتصبب من وجوههم مع ابتسامة بهيجة تسبقهم كلما حملت الرياح أشرعتهم إلى هذا المرفأ الخالد.
سليمان حاج إبراهيم